زرياب

 

د. سهى بعيون

1 /6/ 2019

 

هو أبو الحسن علي بن نافع، الملقب بزرياب، مولى المهدي الخليفة العباسي. ولد عام 160 ھ الموافق 777م، وتوفي في قرطبة سنة 238هـ الموافق 852م.

هو عالم الموسيقى العربي، الذي اخترع الآلات الموسيقية وأضاف إليها وابتكر الألحان ونظرياتها، فكان نجماً من نجوم النهضة الموسيقية العربية، وله اسهامات بارزة في الموسيقى العربية والشرقية.

كان شاعراً عالماً ببعض الفنون، عارفاً بأحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء، اجتمعت فيه صفات الندماء. وكان حسن الصوت.

 

لقّب بزرياب وهو اسم طير أسود اللون عذب الصوت. ولد زرياب في الموصل ونشأ في بغداد وكان تلميذاً لإسحق الموصلي بصورة سرية إلى أن أتقن في الغناء عليه ففي ذات يوم طلب الخليفة هارون الرشيد من إسحق الموصلي أن يأتي معه بمغن جديد يجيد الغناء، فأحضر إسحق زرياب فاستأذن من الخليفة بأن يغني فأذن له:

يا أيها الملكُ الميمونُ طائرُهُ     هارونُ راح إليك الناسُ وابتكروا

 

إلى أن أكمل نوبته فطار الرشيد فرحاً وتعجب منه كثيراً وطلب من أستاذه إسحق أن يعتز به، إلا أن إسحاقاً داخله الحسد والحقد فهدد زرياباً وخيّره بالخروج من بغداد أو يغتاله، فرجح زرياب الخروج من بغداد فخرج وتوجّه إلى الأندلس وكان الخليفة هناك آنذلك عبد الرحمن الثاني، فكتب زرياب إلى الخليفة يستأذنه بالدخول إلى بلاطه فرد عليه حسناً ورحب به، وبعد أن دخل بلاط الخليفة وأصبح من حاشيته غنى بحضرته وما أن سمعه الخليفة حتى شغف به وقربه إليه وأصبح نديمه ومن أقرب الناس إليه.

 

ويطمئن الأمير إلى الطائر الغرد الذي توسم فيه الرجولة والمرؤة وكثيراً من مزايا الرجال وأخلاقهم ويفرض له عطاء شهرياً قَدْره مائتا دينار، وثلاثة آلاف دينار في كل من العيدين، وخمسمائة دينار للربيع إذا لبس وشاحه في جنان المدينة الخالدة.

 

عاش زرياب في كنف الأمير الأموي، في قصره وقد أخذ ينقل إليه عادات المشارقة في الظرف واللياقة وأدب الطعام والشراب واللباس. علّم زرياب أهل قرطبة أرقى أنواع الطهي البغدادي، وفتح فيها ما نسميه "معهد جمال" يدرّس فيه فن التجميل، وعلّمهم أن يفرقوا شعرهم في وسط الرأس، بدلاً من أن يتركوا خصلات الشعر فوق جبينهم تغطي أصداغهم، ويعقصوه حول رأسهم، وأن يظهروا الحاجبين والعنق والأذنين، وأن يلبسوا ملابس بيضاء من أول شهر يونيو حتى نهاية سبتمبر، وأن الربيع هو موسم الملابس الحريرية الخفيفة والقمصان ذات الألوان الزاهية، وأنّ الشتاء فصل الفراء والأردية الثقيلة.  

 

اشتهر زرياب في الأندلس وتمركز بها، و قد لقب زرياب بالقرطبي، إذ بدأ نشاطه في مدينة قرطبة فأسس دار المدنيات للغناء وللموسيقى، يضم أبناءه الثمانية وابنتيه إضافة إلى عدد آخر من المغنين، وتعتبر هذه أول مدرسة فنية أسست لتعليم علم الموسيقى والغناء وأساليبها وقواعدها ومناهج خاصة بِها.

 

وإنّ زرياباً يعتبر هو السبب في اختراع الموشح لأنه عمّم طريقة الغناء على أصول النوبة، وكانت هذه الطريقة هي السبب في اختراع الموشح. وقد أدخل زرياب على فن الغناء والموسيقى في الأندلس تحسينات كثيرة.

 

كان زرياب بدعاً في اللحن والشعر والغناء، فكان يدّعي أن الجن هي التي تعلّمه؛ ولا عجب فقد ورث هذا الشعور من أستاذه إسحق الموصلي الذي ورثه عن أبيه إبراهيم الموصلي وعن عمه أبو لمامة..

 

وكانت له أساليب يختبر بها هواة الفن والغناء. فكان زرياب إذا أراد أن يعلّم تلميذاً أمره بالقعود على وسادة مدوّرة، فإن كان ليّن الصوت أمره أن يشد على بطنه عمامة؛ لأن ذلك يقوي الصوت، فلا يجد متسعاً في الجوف عند الخروج من الفم. فإن كان لا يقدر على أن يفتح فاه، أو كانت عادته أن يضمّ أسنانه عند النطق، أمره بأن يدخل في فيه قطعة خشب عرضها ثلاثة أصابع، يُبيتها في فمه ليالي حتى ينفرج فكاه.

 

إلى جانب هذه الأصول زاد زرياب بالأندلس في أوتار عوده وتراً خامساً اختراعاً منه، إذ لم يزل العودُ بأربعة أوتار على الصنعة القديمة، فزاد عليها وتراً آخر متوسطاً، فاكتسب به عوده ألطَفَ معنى وأكمل فائدة. وهو الذي اخترع بالأندلس مضراب العود من قوادم النسر، بدلاً من مرهف الخشب، فأبدع في ذلك للطف قشر الريشة، ونقائه وخفته على الأصابع، وطول سلامة الوتر على كثرة ملازمته إياه.   

 

وإلى زرياب يرجع الفضل في تعليم الجواري الغناء في عصره والعزف على العود، ومن هؤلاء غِزلان وهُنَيدة، ومنهن منفعة التي اشتهرت بفرط جمالها، وقد أعجب بها (عبد الرحمن)، فأهداها زرياب إليه، فحظيت عنده.

 

وصفوة القول أنّ زرياب لم ينقل إلى المجتمع الأندلسي فنون الموسيقى وضروب الغناء فقط، وإنما نقل إليه أوجه الحياة الحضارية التي كان المشارقة ينعمون بها، فكان بذلك من أهم عوامل التواصل بين مشرق العالم الإسلامي ومغربه في ذلك العصر .

 

وسيظل زرياب الطائر الغرد الذي حمل في طيرانه البعيد، وفي قلبه وعلى شفتيه إلى الأندلس الخالد اللحن الشرقي الذي تمازج مع ألحان الأرض هناك، فكان طلقاً آسراً للروح والقلب جميعاً.