المعتضد بالله الملك الشاعر

 

د. سهى بعيون

1 /4/ 2017

 

تعتبر أسرة بني عبّاد اللخمية التي حكمت إشبيلية وقرطبة من أعظم الأسر الحاكمة آنذاك، وقد كانوا أشهر ملوك الطوائف، فملكوا إشبيلية وقرطبة. يمدحهم ابن اللبانة شاعرهم مؤكداً أنّهم من نسب النعمان بن المنذر بن ماء السماء:

من بني المنذِرين وهو انتسابٌ         زاد في فخرهم بنو عَبَّادِ

فِتيَةٌ لم تلد سواها العالي               والمعالي قليلةُ الأولادِ

 

عرفت الدولة العبّادية رجالاً عظاماً في الحكم والإدارة والدهاء السياسي، ومن أعظمهم عبّاد بن محمد بن إسماعيل، ابن عباد اللخمي، أبو عمرو، الملقب بالمعتضد بالله.

 

ولد المعتضد بالله سنة 404ه‍/ 1013م. كان في أيام أبيه يقود جيشه لقتال بني الأفطس وغيرهم. وولي الأمر بعد وفاته (سنة 433ه‍) فتلقب ـ كأبيه ـ بالحاجب، وأبقى الخطبة في إشبيلية وأكثر الكور باسم «المؤيد بالله» هشام بن الحكم الأموي وحجبه عن الناس، وصبر عليه طويلاً. ثم أعلن أنّه قد مات (سنة 451 ه‍) وأخذ البيعة لنفسه. وكان شجاعاً حازماً، ينعت بأسد الملوك. طمح إلى الاستيلاء على جزيرة الأندلس، فدان له أكثر ملوكها، واستولى على غربِها، مثل شلب (Silves) وشنت برية (Sontebria) ولبلة (Niebla) وشلطيش (Saltes) وجبل العيون (Gibraleon) وغيرها، وولى عليها العمّال (سنة 443). وطالت مدته، ونفقت بضاعة الأدب في عصره. وأخباره كثيرة. توفي بإشبيلية سنة 461ه‍/1069م، بالذبحة الصدرية.

 

الواقع إنّ عبّاد بن محمد كان طموحاً ولم يأل جهداً في محاربة كثير من الدول التي قامت على أطراف بلاده وضمّ بعضها إلى ملكه، ونراه بالرغم من حكمه المتناقض، ومن بطشه الأسطوري يرى نفسه خير ملوك الأرض قاطبة إذ يقول:

هذي السعادة قد قامت على قدم      وقد جلست لها مجالس الكرم

فإن أردت إلهي بالورى حسناً          فملكني زمامَ العرب والعجم

فإنني لا عدلتُ الدهر عن حَسَنٍ        ولا عدلتُ بهم عن أكرم الشيم

أقارعُ الدهر عنهم كُلُّ ذي طلبٍ       وأطرد الدهر عنهم كُلُّ ما عرم

 

إنّ ظروف الأندلس العصيبة دفعت بالمعتضد أن يسلك طريقاً وعرة للحفاظ على ملك محفوف بالمخاطر، وهو وإن أقام ملكه على أطراف الأسنة كما يقول الأبّار فلم يقو أن يحافظ عليه طويلاً لأنّه لم يهيء له ملكاً مدبراً حاكماً، فلقد سقطت الدولة العبّادية في عهد ولده المعتمد يوم بكى الأندلسيون شاعرهم وقائدهم وهو مسوق بين ثلة من رجال يوسف بن تاشفين إلى أغمات أسيراً.

إن طيبعة الأندلس وأوضاع العرب في شبه الجزيرة جعلت من المعتضد شخصية غريبة أفسدت عليه تهيئة ولي عهده لحكم البلاد. مع كل هذا فلقد جمع المعتضد بين كل هذه المتناقضات وبين شاعرية متدفقة حلوة المعاني، قوية السبك، جميلة الألفاظ امدّتها طبيعة الأندلس بالمفاتن والصور البديعة والأوصاف الحلوة، والتشابيه الرقيقة فجعلتها في ذؤابة المخيلات الأندلسية قوة وعطاء، وجمال صور.

 

فكان المعتضد ممن أجاد قول الشعر ونظم روائعه، على أنّ هذا الشعر قد أكسبه بين مواطنيه مكانة شاعر مجيد، وقد جُمع له «ديوان» في نحو ستين ورقة، وكان يغمر الشعراء بالعطاء الكثير. وكان للمعتضد في قصره ديوان للشعراء مرتبين فيه حسب قدرات‍هم وبراعتهم في الشعر.

وعرف عن المعتضد اهتمامه بالبحث والتصنيف الأدبي، فكان مشجعاً للأدباء على هذا اللون من النشاط العلمي والأدبي، فصنف باسمه كثير من الكتب، ومع الأسف فإنّ أكثرها لم يخرج إلى الناس، أو أنّها فقدت بزوال ملك بني عباد ون‍هب خزائنهم، ومما ظهر وشاع من تلك الكتب، ما ألفه الأعْلَم الشَّنْتَمَري الأديب المشهور كشرح الأشعار الستة، وشرح الحماسة.

 

فإنّ دور المعتضد في الحياة الأدبية لذلك العصر أكثر أهمية في الحركة الأدبية من أهميته شاعراً، ونعني ب‍ها تشجيعه للشعر واحتضانه للشعراء. وقد كانت العوامل التي دفعته إلى ذلك كثيرة متعددة، فبالإضافة إلى ثقافته الأدبية الواسعة التي جعلت منه ناقداً قديراً للشعر وهاوياً من هواته، فقد كان المعتضد واسع المطامح، كثير الاعتداد بنفسه، لذا فقد كان يطرب للمديح ويهتز للشعر، فشجع الشعراء على الالتفات حوله والإطناب في الإشادة بمآثره وتخليد أعماله وتمجيد فتوحاته وانتصاراته؛ وكان لهذا الموقف من الملك الشاعر أثره في جذب عدد كبير من الشعراء من الطبقات الوسطى والعامة ممن يتكسب يشعره أو يتقرب إلى السلطان، إلى بلاط الملك ونظمهم القصائد الطويلة في مدحه.

 

وبناء على ذلك يتضح لنا مدى ما كان يتصف به المعتضد من اهتمامات واسعة بالعلم والأدب، وما قدمه للعلماء والأدباء من ضروب التشجيع والتكريم وحرصه الشديد على أن يشتمل بلاطه على أعلام الفكر في عصره، ولهذا قال الحميدي: «وعلى كل حال فلأهل العلم والأدب بِهذا البيت الجليل سوق نافعة، ولهم في ذلك همة عالية».