اهتمام الأندلسيين بعلم التأريخ

د. سهى بعيون

1 /12/ 2016

للتاريخ عند الأندلسيين مكانة رفيعة، ويعتبر من بين العلوم التي حازت على اهتمام وعناية الأندلسيين. فقد أولع الأندلسيون كما أولع المشرقيون بتاريخ بلادهم وملوكهم وحوادثهم، وتراجم علمائهم وأدبائهم، الراحلين من بلادهم والوافدين عليها. والواقع أنّ الأندلسيين برزوا في التاريخ وكأنّهم قصدوا بذلك إظهار ما لهذا الصقع النائي من فضيلة يتميز بِها بين بلاد العالم الإسلامي. فقد رأوا من واجبهم الوطني نحو بلدهم الأندلس أن يسعوا بجهد للحفاظ على تاريخه وما يتضمنه من ضروب النشاط السياسي والعسكري والحضاري بوجه عام.

 

وتبدو لنا أنّ بداية التاريخ الأندلسي غامضة تقريباً كأكثر فروع العلم، ويمكن أن تكون مقترنة ببداية الدولة الأموية التي سعى أمراؤها لحفظ مآثرهم وتخليد سيرهم في ميدان الحرب والسياسة، ولهذا نجد أنّ الإخباريين أو المؤرخين الأُول كانوا من موالي الأمويين الذين سجلوا تواريخ ملوكهم ووقائعهم.

ويمكن أن نرجع أهم العوامل المؤثرة في نشاط الدراسات التاريخية إلى ما كان يعتمل في نفوس بعض مؤرخي الأندلس من حماس شديدة وغيرة على تاريخ وطنهم وسير أعلامه ورجاله، هذا إلى جانب اهتمام الحكام أو بعضهم على الأصح بالدراسات التاريخية والتراجم، مما دفع عدداً من المؤرخين نحو تصنيف وتأليف ما ينشده أولئك الحكام من أمراء وخلفاء وملوك، ولا غرو في ذلك فإنّ بين أيدينا الآن مما تبقى من التراث التاريخي الأندلسي ما يثبت ذلك.

 

وللمؤرخ أبي عبد الله محمد بن الخلف بن الحسن بن إسماعيل الصدفي المعروف بابن علقمة (توفي سنة 509ه‍/ 1116م) كتاب تاريخ الأحداث التي وقعت بمدينة بلنسية على أيدي النصارى سماه «البيان الواضح في الملم الفادح»، نقله الناس في أيامه، وأخذ عنه ابن الأبار في بعض كتبه.

كما أرخ المؤرخ محمد بن يوسف الشلبي (عاش بين القرنين الخامس والسادس الهجريين) لسير وحياة بني عباد ملوك إشبيلية وألف في ذلك مصنفاً أثنى عليه ابن الأبار وأشاد بما ضمنه من معلومات تاريخية قيّمة.

 

ويلاحظ دارس الحركة التاريخية عظم اهتمام الأندلسيين بتصنيف معاجم الأعلام وفهارس الكتب واتساع نشاط هذا اللون من الدراسات التاريخية والحضارية، وما من شك أنّ هذا يعود إلى المستوى الرفيع الذي بلغه الأندلسيون في العلوم والمعارف الإنسانية، ومن أمثلة تلك المعاجم ما ذكره العلامة ابن بشكوال (توفي سنة 578ه‍/  1183م) في مقدمة كتابه الشهير «الصلة» من الكتب التي اعتمد عليها تصنيف كتابه المذكور فأشار إلى كتاب «طبقات القُرّاء والمُقْرِئين» لأبي عمرو الداني و«جذوة المقتبس» للحميدي، و«المؤتلف في فقهاء قرطبة» لأبي عمر بن عفيف، وكتابه الآخر «الاحتفال في تاريخ أعلام الرجال»، و«تاريخ فقهاء طليطلة» لأبي جعفر بن مطاهر (توفي سنة 489ه‍/ 1096م) وغير ذلك.

 

وهناك مؤرخون عنوا بتراجم طائفة خاصة، فبعضهم كان يعنى بتراجم المحدّثين كابن عبد البر (362 ـ 460ه‍/ 972 ـ 1067م) الذي ألّف كتاب «الاستيعاب»، وبعضهم عني بتراجم الأدباء، ومن أشهر هؤلاء ابن بسام (ت 542ه‍/1147م) الذي ألف كتابه العظيم «الذخيرة». وهناك مؤرخون عنوا بتراجم علماء ناحية معيّنة من النواحي.

وجدير بالذكر أنّ كتب التاريخ والتراجم تشير في الكثير من المواضع إلى أعداد كبيرة ممن كانت لهم مشاركة في التاريخ وإسهام في نمائه. ولكن من ذكرناهم يعدون أبرز مؤرخي تلك الفترة وأشهرهم على الساحة العلمية في علم التاريخ.

 

ومن رواد الحركة التاريخية في الأندلس المؤرخ القدير علي بن أحمد بن حزم (ت 456ه‍/ 1063م)، أظهر في ميدان البحث التاريخي مقدرة كبيرة ورؤية عميقة. ومن أبرز إسهامات ابن حزم في التأليف التاريخي كتابه «جمهرة أنساب العرب» الذي وصف بأنّه أوسع كتب الأنساب وأشملها مع الإيجاز.

 

وإننا نلاحظ في التاريخ الأندلسي عدة أمور:

1ـ أنّ التاريخ في الأندلس سواء كان تاريخاً سياسياً أو تراجم رجال متأثر من ناحية المؤلفين بعلم الحديث ومنهجه أكثر من المشرق، والسبب في ذلك أنّ منهج التعليم في الأندلس كان منهجاً دقيقاً شديداً، يسوده فقه الإمام مالك وما ينبغي عليه من حديث وتفسير، فكان الاشتغال بالفقه والحديث يسلمهم غالباً من ترجمة رجال الحديث إلى ترجمة رجال العلم والأدب، ولذلك نرى أكثر المؤرخين فقهاء أشبه ما يكونون بالطبري في المشرق. فقد كان فقيهاً مؤرخاً، ولكن قلّ أن نجد بالأندلس من مؤرخي المشرق غير الفقهاء.  فمثلاً نجد صاعد الطليطلي، بارعاً في علوم الدين وقاضياً. وابن عبد البر النمري إماماً في التاريخ والحديث، وهو يقدم في كتاباته مادة تاريخية مع ذكر الأحكام الفقهية خلال سرد الأحداث التاريخية، وكثرة استشهاده بالشعر كمعضد للخبر التاريخي.

 

2ـ ونلاحظ أنّ التاريخ الأندلسي اتصل بالأدب أكثر مما اتصل المؤرخ المشرقي به، وسبب ذلك أنّ أكثر المؤرخين الأندلسيين كانوا أدباء شاعرين أو ناثرين، وسبب آخر هو أنّ عواطف الأندلسيين نحو بلادهم كانت أقوى، فكلما سقطت بلدة في يد النصارى رثاها الأدباء وحلّل وقائعها المؤرخون.  فإنّنا نجد ابن زيدون (394ـ463ه‍/1003ـ 1070م)  إلى جانب مكانته الأدبية والشعرية كان بارعاً أيضاً في ميدان التاريخ والأنساب. وكان حيان بن خلف (377ـ 469 ه‍/ 987ـ 1076م) أكبر علماء التاريخ بارعاً في الآداب، وكان يكتب التاريخ بقلم الأديب وأمانة المؤرخ، وهو يلتزم بِهذا الأسلوب في كل كتاباته التاريخية، فكانت كتبه أقرب شيء إلى أدب ممزوج بالتاريخ.

 

3ـ ورأينا في الأندلس أيضاً صنفاً من التاريخ لم نجده كثيراً في المشرق. فقد رأينا في ترجمة ابن عبد ربه أنه نظّم في عبد الرحمن الناصر أرجوزته المشهورة التي تناولت جميع مغازيه حتى سنة (322ه‍( ووصف فيها تاريخ كل غزوة، وهي أشبه ما تكون بالتاريخ المنظوم.

 

4ـ لقد رأينا مدناً في المشرق تتساقط تساقط أوراق الشجر، تستوجب الرثاء والبكاء، كما سقطت بغداد في يد التتار، وأزالوا كل ما فيها من مظاهر مدنية وحضارة، وفعل التتار فيها ما لا يقل عما فعله الإسبانيون في الأندلس، فما رأينا عاطفة قوية، ولا رثاء صارخاً ولا أدباً رقيقاً ولا تاريخاً مسجلاً، كالذي رأيناه في الأندلس، فإن هذه الناحية في التاريخ الأندلسي أقوى وأشد.

فإنّ ميدان التاريخ والتراجم قد حظي من الأندلسيين بكل اهتمام وعناية بالغين، فظهر فيهم مؤرخون لامعون استطاعوا أن يمدوا حركة الدراسات التاريخية بالكثير من الجهود العليمة فأثروا بذلك حقل التاريخ والتراجم والأنساب.