المرأة الأندلسية وشعر الطبيعة

د. سهى بعيون

   1 / 8/ 2017

 الأندلس أغنى بقاع الأرض منظراً طبيعياً وأوفرها جمالاً، قال فيها الشعراء أجمل القصائد وأرقّها. تغلغلت الطبيعة في موضوعات الشعر الأندلسي وامتزجت بِها امتزاجاً كبيراً. ولقد دارت موضوعات الطبيعة حول وصف الروض والزهور، والشجر وثمارها، والأن‍هار، والجبال، والمدن والقصور. أما سائر الأغراض التي تطرقت إليها الشاعرة في وصفها، فلم تكن بموازاة شعر الطبيعة.

ويظهر تأثير حب الطبيعة في جميع مواضيع الشعر الأندلسي، فلا نكاد نقرأ قصيدة أندلسية سواء أكانت في الوصف أم الرثاء أم المديح أم غير ذلك إلاّ ونلمح آثار الطبيعة في مخيلة الشاعر واضحة بينة ونلمس تعلقه بِها في ثنايا التعابير المجازية والتشبيهات والاستعارات.

ونزعت شاعرات الأندلس إلى أحضان الطبيعة الخلابة، إذ أَثْرَت أخيلتهنّ بمختلف الصور الشعرية، وأطلقت عنان أفكارهنّ، فَصُغْنَ أجمل القصائد وأرق التعابير. وصوّرن الطبيعة تصويراً وجدانياً، فيؤلفن بذلك لوحة طبيعية تنطلق بالمشاعر والأحاسيس.

فلقد تفنّنت الشاعرة الأندلسية في وصف الطبيعة حتى فاقت زميلتها المشرقية. وقد اشتهر في هذا الغرض الشعري عدد من الشاعرات، وفي مقدمتهنّ حمدونة بنت زياد الوادي آشية، التي كان يحلو لها أن تستمتع بجمال المنظر الطبيعي، وتستريح تحت أفياء الشجر ترخي لخيالها العنان؛ فتتأمل وتبرع في الوصف.

وتصف لنا حمدونة واديها وصفاً بارعاً دقيقاً بأجمل ما يوصف به واد، فترسم له صوراً وتفتق حوله معاني من أبرع ما رسم من صور وأرق ما فتق من معان، فتحملنا على جناح الأثير كأننا نراه، وهي تودُّ، برغبة ملحّة، أن نتفيّأ ظلاله، وننعم بروعة أزاهيره الفيحاء، ودوحاته الميّادة، وأشجاره التي عطّرت الجو بنسائم منعشة. ومما تقول في وصفه:

وقانا لفْحَةَ الرَّمْضاءِ واد       سقاهُ مضاعَفُ الغَيْثِ العميمِ

حَلَلْنا دَوْحَهُ فحنا علينا         حُنُوَّ المرضِعاتِ على الفطيمِ

وأرْشَفَنَا على ظمإٍ زُلالاً             أَلذَّ من المُدامَةِ للنَّديمِ

يَصُدُّ الشمسَ أنَّى واجهتْنا          فَيحْجُبُها ويأذَنُ للنَّسيم

يَرُوع حصاه حاليةَ العذارى        فتلمَسُ جانبَ العِقْدِ النَّظيمِ

وكانت معاصرت‍ها أم العلاء بنت يوسف الحجارية البربرية، قد طرقت بدورها وصف المنظر الطبيعي، وقد ترجم لها ابن سعيد وقال: نقلاً عن كتاب المسهب للحجاري: «أنّها ممن تفخر به بلدها وقبيلتها».

وقد عمدت أم العلاء إلى رسم صورة جذابة لبستانِها الذي يزيِّنه في وادي الحجارة نبات متواضع هو القصب الفارسي، وذلك في قولها:

للهِ بُسْتاني إذا             يَهفو به القَصَبُ المُنَدَّى

فكَأنّما كفُّ الرِّيا          حِ قَدَ اسْندَتْ بَنْداً فَبَندا

يتضح لنا من خلال ما سبق أنّ شعر الطبيعة كان له شأن عند شاعرات الأندلس لم يكن له مثله عند أقران‍هنّ في المشرق، وذلك استجابة لمؤثرات البيئة وما انطوت عليه بلادهنّ من مظاهر الحسن وما انفعلت به نفوسهنّ بما استشعرن حولها من عناصر الجمال؛ ففاضت قرائحهنّ ببديع القول تجاه تلك الأماكن التي شغفْن بِها؛ فوصفْنها أجمل وصف، وأسبغْن عليها من أنفسهنّ الشيء الكثير؛ فكان شعر الطبيعة بمنزلة لؤلؤة ثمينة انتظمت في سلك عِقْد زيّنته الشاعرة الأندلسية أحسن تزيين.