الشاعر ابن زيدون

د. سهى بعيون

1 / 10/ 2013

 

هو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب بن زيدون القرطبي (394ـ463ه‍/1003ـ 1070م). هو الشاعر الكبير والناثر الفذ والأديب الذي يقف في مقدمة الصف الأول بين شعراء الأندلس وأدبائها، وهو منهم في مكان الصدارة. وهو سليل أسرة اشتهر أفرادها بالعلم والأدب، وكانت هذه الأسرة تنتمي إلى أصل رفيع، إذ تنتسب لمخزوم من بطون قبيلة قريش. كان والده فقيهاً ذا مكانة علمية ودينية محترمة حملت حكام قرطبة على تعيينه مستشاراً لقاضي قرطبة في شؤون القضاء والدين. نشأ ابن زيدون في قرطبة وطلب الأدب وبرع فيه، وذاع صيته بالمهارة في نظم الشعر. وشق ابن زيدون طريقه في الأوساط الثقافية والأدبية مستخدماً نبوغه الأدبي وكفاءته الشعرية لارتقاء سلم المجد الأدبي والاجتماعي.

 

عاش ابن زيدون حياة الصبا في قرطبة في أحلك عهودها وأظلم عصورها في عهد غروب شمس الخلافة الأموية وزوال نورها وانطفاء نجمها، فترة التناحر على الخلافة وإثارة الفتن وبعث الاضطرابات وانتشار الدسائس والانقلابات.

 

وأسهم ابن زيدون في تأسيس الدولة الجهورية بقرطبة، وتولى فيها أرقى المناصب، ولكن الدسائس قد لاحقته فأفسدت ما بينه وبين مؤسسها أبي الحزم بن جهور، فألقى به في السجن زهاء عام ونصف، وأصم أذنيه عن توسلاته، ففر من سجنه ولكنه تابع توسلاته إليه، والاستشفاع بأصدقائه، حتى ظفر بالعفو عنه. وبعد وفاة أبي الحزم وتولي أبي الوليد زمام الحكم في قرطبة دخل ابن زيدون في خدمة هذا الأخير، وقد ساعدته صلته بالأمير أبي الوليد وقابلياته الأدبية على أن يجد له محلاً في مناصب دولته، وعلت منزلته لديه، فعُيّن في ديوان أهل الذمة ردحاً من الزمن، بيد أنّ الحال لم يدم على هذه العلاقة الطيبة فتوترت العلاقة بينهما، غير أنّ أبا الوليد بن جهور عفا عنه وأعاده إلى مكانته ثم اتخذه سفيراً إلى عدد من ملوك الطوائف. وقد ترك ابن زيدون ذخيرة أدبية من أروعها وأصدقها ما أنشده خلال الأزمات التي عصفت به.

 

وكان ابن زيدون أديباً فصيحاً بليغاً فطمع كل ملك في اجتذابه إلى بلاطه غير أنّه فضّل الإقامة في بلاط المعتضد فسار إلى إشبيلية سنة (441ه‍/1049م)، إذ كان أشدَّ ملوك الطوائف رغبة فيه، وأكثرهم تمسّكاً بالأدباء، وكان المعتضد شاعراً، فزاد الشعر ابن زيدون قيمة في نظره. واستراحت نفس ابن زيدون عند المعتضد، وأعلى المعتضد مكانته وقرب مجلسه وأدناه، فألقى إليه مقاليد وزارته، وأصبح صاحب أمره ون‍هيه.

 

ففي إشبيلية بدأ الشاعر حياة جديدة وصل فيها إلى أعلى درجات المجد الأدبي والاجتماعي والسياسي. فلم يعد ابن زيدون شاعراً فقط بل لقد أصبح شخصية بارزة من شخصيات الدولة الإشبيلية وحصل على اللقب الرفيع «ذو الوزارتين» الذي لم يكن يمنح إلاّ لأرفع شخصية في الدولة وأقرب‍ها إلى الملك والحاكم. ومن المؤكد أنّ دور ابن زيدون في بلاط المعتضد في هذه الفترة الطويلة التي امتدت عشرين عاماً لم يكن دور شاعر بسيط، ولا حتى دور كاتب مقرّب، وإنّما كان الوزير الأول للمعتضد ومحل ثقته واعتماده ومساعده الأيمن.

 

فقد أقام ابن زيدون في كنف المعتضد مدة فجاء جانب من شعره سجلاً حافلاً ببعض حوادثه الجسام. ولم يترك ابن زيدون مناسبة عيد إلاّ انتهز الفرصة لمدح المعتضد، وبيان سياسته الحصيفة وحروبه المظفرة على خصومه. وظل ابن زيدون في بلاط المعتضد مرعي الجانب كريم المنزلة متقلّداً للوزارة لدى المعتضد حتى توفي الأخير وتولى بعده ابنه المعتمد الذي زاد في إكرام ابن زيدون. فقد أبقى المعتمد ابن زيدون أنيساً وجليساً، وكان لتصرفه في شؤون النظم يتبادل القصائد معه. ولقد سعى حساد ابن زيدون وخصومه في إسقاطه عن مكانته وإبعاده عن بلاط بني عباد، حتى أشار بعضهم على المعتمد أن يرسل ابن زيدون لتهدئة الثائرة التي قام بِها العامة ضد اليهود في إشبيلية، فسار ابن زيدون على رأس الحملة على مضض وقد أثقلته الأمراض وأوهنت جلده الأسقام ليلفظ أنفاسه الأخيرة في رجب (463ه‍/ 1070م).

 

وينال المديح الحظ الوافر من اهتمام الشاعر وعنايته، ولا عجب من ذلك وقد رأينا وشهدناه دائباً على السياسة، متصلاً بأكثر ملوك عصره. ولابن زيدون ديوان كبير، ومن يرجع إلى ديوانه يستطيع أن يلاحظ في وضوح أنّ الموضوعات الأساسية التي تتوزع شعره هي الغزل والمديح ويدخل فيه ضرباً من الاستعطاف.

 

ولعل من عوامل شهرة ابن زيدون ارتباط حياته بحبه المشهور لولادة بنت المستكفي، والتي قال فيها قصائده الجميلة وأعذب أشعاره وأرقها. ولادة مبدأ حياة ابن زيدون، هام بِها، وكان من أولئك الأدباء الذين ارتادوا مجالسها الأدبية وكان آنذاك في مَيْعة  الشباب ورونقه.

وكانت ولادة ماهرة في الأدب بارعة في الشعر، حتى كان كثير من الأدباء والشعراء يغشى مجلسها بقرطبة يتبادلون فيه نظم ألوان من الشعر والنثر. وأبعدت ولادة ابن زيدون عن قسم كبير من أصحابه إلى غير رجوع. وأصبح هؤلاء، كابن عبدوس وأمثاله، يكيدون له لدى الوزير، ليبعدوه عن ولادة، ولا نصيب لابن عبدوس وأمثاله بولادة، إلاّ إذا بعد عنها ابن زيدون.

 

لقد كان حب ابن زيدون لولادة حدثاً مهماً في حياة الشاعر كان له أعمق الأثر في إنتاجه الأدبي. فأسبغت ولادة على شعره، والغزلي منه على الأخص، مسحة من الجمال. وحب ولادة زاد في محبته للطبيعة، فأصبح من ميزات غزله أنّه مزج حبه للطبيعة بحبه لولادة، وتغنى بالاثنين معاً. فكان حب ولادة من أكبر الأسباب في وصوله إلى مرتبة الزعامة بين شعراء الغزل الممتازين.

 

فقد كان لولادة الأثر الكبير الأثر، في جل نتاجه، وسعيه، واختلف هذا الأثر باختلاف الأغراض التي طرقها، وبتنوع سعاياته في بحر حياته المضطربة.

 

وإنّ ابن زيدون من أوفى شعراء الأندلس بالطبيعة وقد تجلى ذلك بوضوح في وصفه وغزله. وإنّ ابن زيدون أكثر الشعراء الأندلسيين مزجاً للغزل بالطبيعة.

 

ولما عصفت الأيام بابن زيدون، فألقى به أبو الحزم بن جهور في غيابات السجون، رفع عقيرته بالشكاة والفخر والتوسل والاحتجاج، ووجد من الطبيعة مجالاً فسيحاً، لاذ إليه وقال:

ألَمْ يَأْنِ أنْ يَبْكي الغَمامُ على مِثْلي  ***  ويَطْلُب ثأري البَرْقُ مُنْصَلِتَ النَّصْلِ

وهَلاَّ أقامَتْ أنْجُمَ اللَّيلِ مأْتَما  *** لِتَنْدُبَ في الآفاقِ ما ضاعَ مِنْ تَتْلي

ولَوْ أنْصَفَتْني وهي أشكالُ همّتي *** لألْقَتْ بأيدي الذُّلِّ لَمّا رَأتْ ذُلّي

ولافْتَرَقَتْ سَبْعُ الثُّريّا وغاضَها  *** بمطلَعِها ما فرَّق الدَّهْرُ من شَمْلي

 

وابن زيدون هنا يهيب بالطبيعة، ناطقة وصامتة، حية وجامدة، أن تشاركه في نكبته، وتَهتّم بمصيره، فتقيم النجوم المآتم، وتسلّم نفسها للهوان مثله، ويستبدّ به الخيال فيطلب من نجوم الثريا السبع أن تتفرق بعد ائتلاف، وتنقص بعد تمام، وكأنّ ابن زيدون في هذه الأبيات جزء من الطبيعة، ممتزج بِها، متجاوب المشاعر معها.

 

وإنّ شعره يدل على أنّه واسع الاطلاع على شعر المشرق، وشعر من قبله الأندلسيين وأنّه أفاد من كل ذلك مع احتفاظه بشخصيته المميزة في شعره وعنايته بإبراز ذاته في أعماله الشعرية. فهو دون شك أسطع وجوه الأدب الأندلسي وأطولهم باعاً في نظم من الشعر وأكثر الشعراء الأندلسيين شهرة في المشرق العربي قديماً وحديثاً.