تألّق الأندلسيين في العلوم الطبيّة

د. سهى بعيون

1 / 10/ 2014

 قدّم المسلمون والعرب للحضارة العالمية إسهامات عديدة في مختلف جوانب العلوم الطبية. استفادت الأندلس وغربي أوروبا من الطب العربي المشرقي الذي شهد تطوراً بارزاً في المشرق، ثم انتقل بواسطة الأطباء والمؤلفات إلى الأندلس. وقد كانت للتيارات الثقافية الواردة على الأندلس أثر في النهوض بالطب والرقي بدراساته المختلفة.

 نال الأندلسيون تقدماً ملحوظاً في علم في الطب، وأسدوا للإنسانية كثيراً من الجهود الموفقة والإنجازات العلمية القيّمة التي دفعت الطب نحو الأمام. ولا شك أنّ هذا العلم يأتي عند الأندلسيين في مقدمة العلوم التطبيقية من حيث الاهتمام والعناية، ووفرة الإنتاج العلمي. وعن الأندلس انتقل هذا العلم حيث ترجمت أكثر هذه الكتب إلى اللاتينية.

وكان لعلم الطب منزلته السامية في المجتمع الأندلسي فنجد صدى ذلك في شعر السميسر خلف بن فرج الذي قال:

كل علم ما خلا الشرع       وعلم الطب باطل

غير أنّ الأول الطب         على رأي الأوائل

هل تمام الشرع إلاّ          أن يكون الجسم عامل

فإذا كان عليلاً               بطلت تلك العوامل

وبرع المسلمون في تركيب عدد من الأدوية وألفوا في ذلك الكتب وكانوا أول من أنشأ فن الصيدلة. ولقد أصاب علم الصيدلة في الأندلس تطوّراً عظيماً بفضل النص العربي لكتاب ديسقوريدس الذي أعدّه أطباء قرطبة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي.

 كان علم الطب من بين العلوم التي اعتمدت في تطورها وازدهارها على التيار العلمي بين الأندلس والمشرق. ومنذ بداية عصر الخلافة اتخذت مسيرة الدراسات الطبية أبعاداً جديدة، ففي عهد الخليفة عبد الرحمن الناصر (دخلت الكتب الطبية من المشرق وجميع العلوم، وقامت الهمم وظهر الناس ممن كان في صدر دولته من الأطباء المشهورين). كما ذكر ابن جلجل.

ومن بين كتب الطب التي دخلت الأندلس كتاب «زاد المسافر» لمؤلفه الطبيب القدير أبو جعفر بن الجزار القيرواني، وقد أدخله الأندلس الطبيب عمر بن بريق، وكان لهذا الكتاب تأثير واسع، واعتمد عليه الطبيب الجراح خلف بن عباس الزهراوي.

وجدير بالذكر أنّ كتاب النباتات الطبية لديسقوريدس، يعدّ من بين الكتب الهامة التي استفاد منها أطباء وصيادلة الأندلس. فقد أهدى الأمبراطور البيزنطي قسطنطين السابع إلى الناصر في عام (337ه‍ / 949م) كتاب ديسقوريدس مصوّر الحشائش بالتصوير الرومي العجيب. ووصول هذا الكتاب إلى الأندلس كان بداية طيّبة لاشتغال علماء الأندلس بالطب وحذقهم له وتأليفهم فيه المؤلفات العديدة. فتُرجم هذا الكتاب في عهد الناصر وبدأ في دراسته (المشتغلون) بالطب في عهده. وتعد ترجمة كتاب ديسقوريدس في النباتات الطبية واطلاع الأندلسيين عليه تحولاً كبيراً في ازدهار الدراسات الصيدلية.

زهت الأندلس في أيام الناصر بأعيان الأطباء، ثم اتّسعت دائرة هذا العلم في عهد المستنصر وهشام المؤيد بن المستنصر.

نال الأندلسيون تقدماً ملحوظاً في علم في الطب، وكانت مهنة الطب تمارس إلى جانب القضايا الأخرى أحياناً. لذا نجد أسماء اشتهرت في الفلسفة والأدب لكنهم كانوا يحسبون أطباء أيضاً. وقد ذاعت شهرة هؤلاء الأطباء وغيرهم، حتى وفد بعض ملوك الأسبان إلى أطباء الأندلس لعلاج ما استعصى من أمراضهم.

 برز في الأندلس الكثير من الأطباء، وكان في مقدمتهم بنو زهر. وزهر أسرة أندلسية، شريفة عريقة ذات مجد وشهرة عظيمة في العلوم الطبية، وبنوها متبحرون بشتى العلوم كالفقه والأدب واللغة والحديث وخصوصاً العلوم الطبية سواء كانوا نساء أو رجالاً. كنى أفرادها جميعاً بابن زهر، واشتهر رجالها ونساؤها بصناعة الطب في الفترة الواقعة بين القرن الحادي عشر والثالث عشر الميلادي. وأنجبت هذه الأسرة عدداً من مشاهير الأطباء خلال ستة أجيال متتابعة، توارثت العلم ابناً عن أب، وقد استوطنت إشبيلية القاعدة الأندلسية الشهيرة مقر ملك بني عباد وكان هذا الانتقال من دانية إلى إشبيلية على يد الشيخ الطبيب أبي العلاء زهر.  وكانت هذه الأسرة من أعيان إشبيلية نجوماً في سماء الطب والعلاجات بالأندلس.

لقيت هذه الأسرة الجليلة ثناء العلماء المؤرخين ليس في الأندلس فحسب بل في المشرق أيضاً. وأول طبيب في هذه الأسرة أبو مروان عبد الملك بن محمد (توفي سنة 470ه‍/ 1078م). وجدير بالذكر أن نشير إلى أنّ أبا مروان تولى رئاسة الطب في بغداد ثم بمصر ثم بالقيروان وهو ما أشار إليه المقري، وإذا صح هذا فإنّ فيه دلالة واضحة وعميقة على مدى ما بلغه الأندلسيون من تفوق وأحرزوه من سبق في هذا العلم، واعتراف المشارقة بذلك.

ومن أبرز الأطباء الأندلسيين ممن كان لهم دور فعال في ازدهار الطب ورقي دراساته، الطبيب سليمان بن جلجل، طبيب الخليفة هشام الثاني (976 ـ 1009م). اشتهر ابن جلجل بدراساته العميقة في الطب والصيدلة، وصنف تاريخاً للعلماء والأطباء بالأندلس في عصره، كما فسّر أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس، وأوضح ما غمض منها من كتاب له سماه «كتاب تفسير أسماء الأدوية المفردة من كتاب ديسقوريدس» ألّفه في شهر ربيع الآخر سنة (372ه‍/ 982م) بمدينة قرطبة.

ومن مملكة بني هود بسرقسطة نبغ الطبيب عمرو بن عبد الرحمن الكرماني، من أهل قرطبة، ولد سنة (368 ـ ‍458ه‍/978ـ 1066م ). وكان هذا العلامة موسوعياً، فهو جرّاح، عالم بالطب وفيلسوف ورياضي ومهندس، ولكنه اشتهر أكثر بمعرفته الواسعة بالهندسة والطب خاصة، فقد أبدى مهارة فائقة في ميدان الجراحة الطبية.

وهو أول من حمل رسائل «إخوان الصفا» إلى الأندلس، أتى بِها من المشرق، ولم تكن قبله معروفة هنالك. وكان متميّزاً في صناعة الطب، ولا سيما الكيّ والقطع والشق والبط، وغير ذلك من أعمال الصناعة الطبية.

ومن مملكة طليطلة ظهر الطبيب والصيدلي المشهور الوزير ابن وافد الطليطلي (398 ـ 460 ه‍/ 1007ـ1067م) من أشراف أهل الأندلس، وكان وزيراً لابن ذي النون صاحب طليطلة.

فقد سبق ابن وافد العديد من الأطباء المعاصرين إلى تأكيده الاعتماد على الأقل من الأدوية في معالجة المرض، وكان ضد الوصفات الطبية الطويلة المعقدة التي لا يجني المرضى منها سوى المعاناة والآثار الجانبية السيئة.

ولابن وافد كتب كثيرة في الأدوية والتجارب الطبية وطب العيون والصيدلة وما إلى ذلك، نذكر منها كتاب «الأدوية المفردة» وكتاب «تدقيق النظر في علل حاسة البصر» وكتاب «الوساد» في الطب، وكتاب «مجربات في الطب» وكتاب «المغيث». وبعد هذا فلا عجب أن يوصف ابن وافد بأنه مؤسس علم الصيدلة الحديث.

ومن الحق أن نقول أنّه برز في الأندلس أعداد كبيرة من الأطباء بذلوا جهوداً مثمرة في ميدان الدراسات الطبية.

أسأل الله تعالى أن يُعيدَ للعرب والمسلمين سابق مجدهم وعزِّهم وسَبْقَهم، وهو على كل شيء قدير.