دور الخليفة المستنصر في التطوّر العلمي في الأندلس

د. سهى بعيون

1 /4/ 2015

تولى الخلافة بعد وفاة الناصر ابنه الحكم الثاني الملقب بالمستنصر بالله (350ـ366ه‍/961ـ976م)، وقد قارب الثامنة والأربعين من عمره. وتعد خلافة الحكم المستنصر بالله تتويجاً لعصر أبيه عبد الرحمن الناصر. وكانت خلافته إيذاناً بعهد جديد في الأندلس من الناحية الفكرية، وكان للخليفة الحكم المستنصر جهود ومساع عظيمة لدفع عجلة النشاط العلمي في الأندلس. وإنّ النهضة الأدبية والعلمية التي شجعها الناصر بكل وسيلة والتي عنى بِها كل العناية قد قام على حراستِها وتعهّد نموّها وجنى ثمارها ابنه الحكم الثاني.

ازدهرت الحضارة الأندلسية في عهد الناصر وابنه الحكم وبلغت الذروة، ويرجع ذلك إلى المجهود الضخم الذي يكاد يكون فوق طاقة البشر الذي بذله عبد الرحمن الناصر في توطيد سلطته، وقد سار ابنه الحكم الذي أحكم الناصر تنشئته وأحسن تربيته على مثال أبيه مقتفياً آثاره مستكملاً لخططه.

كان الخليفة الحكم يمثل الخليفة العالم المستنير الناهض خير تمثيل، وقد كان واحداً من أعلام العلم والأدب، ونموذجاً للتفكير الحر وعاملاً في دفع النَهضة في العلم والأدب في عصره والعصور التي تلت عصره دفعة قوية لم تنتكس من بعدها، بل ظلت بلاد الأندلس المنارة العالية المشعّة لنور العرفان حتى قضى الله أن يخرج من هذه البلاد المسلمون العرب بعد أن أقاموا فيها قرابة ثمانية قرون، وبعد أن وصلت حضارت‍هم ومدنيتهم إلى الذروة.

وللمستنصر اليد الطولى في بعث الحياة العقلية بالأندلس، فقد عنى في أيام أبيه الناصر بالعلوم. ولقد عاشت الأندلس في عهد الحكم المستنصر عصراً ذهبياً تميز بعدة مظاهر أبرزها ازدهار العلوم والآداب.

فقد كان عهده عهد تفوق وازدهار للحركة العقلية في المغرب، لا يقل عما أداه خلفاء بغداد إلى ن‍هضة المشرق، إذ أنبأنا التاريخ أنّ الأندلس كانت في عصره أكبر أسواق الأدب والعلم.

كان الخليفة الحكم حسن السيرة، عالماً نبيهاً صافي السريرة، يعتبر بلا مبالغة أعظم حكام الأندلس علماً وأدباً وتأثيراً على مجرى الحركة العلمية في الأندلس على امتداد عصورها، وهذا ليس فيه مبالغة، فكان مُحبّاً للعلوم، مكرماً لأهلها.

فقد كان المستنصر بحراً زاخراً في الأدب والتاريخ، وعالماً كبيراً بالعلوم الدنيوية مشجعاً على دراستها مؤيداً للرأي الحر والتفكير الفلسفي.

كان كثير القراءة في فروع المعرفة حتى أكسبه ذلك شخصية علمية متألّقة وفكراً نيراً ورأياً نقدياً صائباً، وهو ما دفع العلماء إلى اعتبار أقواله وآرائه العلمية حجّة لديهم. وربما كان أعلم أمير جاء في الإسلام.

ولقد كان الحكم «عالماً فقيهاً بالمذاهب، إماماً في معرفة الأنساب، حافظاً للتاريخ، جمّاعاً للكتب، مميزاً للرجال من كل عالم وجيل، وفي كل مصر وأوان».

وألّف مؤلفات بعضها في الأنساب وأخرى في التاريخ، وله تعليقات عديدة على كثير من المؤلفات التي قرأها أو سمعها.

واشتهر الحكم بحبّه للكتب، ذا غرام بِها، جمّاعاً للكتب في أنواعها بما لم يجمعه أحد من الملوك قبله.

وكان أخوه عبد الله ـ المعروف بالولد ـ على مثل هذه الحال من المحبة في العلم والعلماء والرواية، وتوفي في حياة أبيه مقتولاً فتُصُيِّرَتْ كتبُه إلى أخيه الحكم.

وقد احتفى الحكم بمجموعة من مشاهير علماء العصر الأندلسيين والمشارقة زينوا بلاطه وملأوه علماً وأدباً، منهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي، والعالم العراقي المشهور أبو علي القالي صاحب كتاب الأمالي.

وكان الحكم يسبغ رعايته على سائر العلماء من مختلف الملل والنحل، مسلمين كانوا أو غير مسلمين، ومن شواهد هذه الرعاية أنّ الأسقف العالم رثموندو الألبيري، أحد المستعربين، المسمى باسمه العربي، ربيع بن زيد، كان أثيراً لديه متمتعاً برعايته لتبحره في علم الفلك والعلوم الفلسفية. وتحول بلاط الخليفة إلى أكاديمية عظيمة تزخر بشتى أنواع المعارف.

استقدم الحكم الثاني الأساتذة من مشرق العالم الإسلامي ليقوموا بالتدريس في الجامع الكبير وأوقف لهم وأجرى عليهم المعاش.

فقد أفاء الحكم على العلم، ونوَّه بأهله، ورغَّب الناس في طلبه. فكثر تحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل وتعلّم مذاهبهم. فلذلك نَهضت الأندلس علمياً في شتى الميادين خلال هذه الفترة.

نشر العلم في أمته حتى قلّ فيها الأميّون، وكانت جامعة قرطبة في أيامه أعظم جامعات الأرض تقرأ فيها العلوم الطبيعية والرياضية والفلكية والكيمياوية، ويحتشد بين عقودها أكابر الأساتذة.

وإلى جانب هذا كان التعليم العام في عهده يجوز نَهضة متميزة، فقد كان للحَكم جهود واضحة ملموسة في تعليم شعبه وتثقيفه، فقد امتدت يده حانية مواسية للفئات الفقيرة المتطلعة إلى التعليم فيسّر السبل أمامها لتعليم أولادها، أسس عدداً من دور التعليم خصصت لأبناء الفقراء مجاناً. وافتتح سبعة وعشرين مكتباً، ثلاثة منها ألحقها بجامع قرطبة، والباقي فرّقه على أرباض قرطبة لتعليم الأطفال والتلاميذ، وخصص لتلك المهمة عدداً وافراً من العلماء والفقهاء، وأجرى عليهم المرتبات وأوصاهم بالإخلاص في عملهم. وكان لحرص الحكم على أن ينال كل فرد من رعيته حقّه في التعليم أن أمر بحبس حوانيت السراجين بقرطبة على المعلمين وأولاد الضعفاء والفقراء. وروى دوزي أنّه كان كل فرد في الأندلس يعرف القراءة والكتابة، بينما كان في أوروبا جميع النصارى حتى النبلاء والأشراف منهم، لا يفكرون في التعليم.

وكان يشجع المؤلفين ويحضر مجالس العلم. وكل ذلك جعل من قرطبة أعظم مركز علمي في الغرب كله الإسلامي والمسيحي على السواء.

فقد كان الحكم راعياً للثقافة في شتى فروعها. وإنّ هذا الخليفة العالم قد أحدث في عصره ثورة علمية واسعة النطاق سلك في قيامها طرقاً وأساليب مختلفة، من أبرزها اهتمامه البالغ بتشجيع العلماء والأدباء على البحث والتحصيل والتصنيف. فكان أكثر ملوك الأندلس اشتغالاً بالعلم ونشره وعناية به، وأجودهم في سبيله. ويعتبر الخليفة الحكم بلا مبالغة أعظم حكام الأندلس علماً وأدباً وتأثيراً على مجرى الحركة العلمية في الأندلس على امتداد عصورها. ولا نبالغ إذا اعتبرناه بجهوده العلمية رائداً للنهضة العلمية في عصر الخلافة. وكان عصر الحكم الثاني العصر الذهبي للعلم في الأندلس، ولا سيما في العاصمة قرطبة. وقيل إنّ قرطبة عرفت في عهده الأكاديمية العلمية قبل أي مدينة أخرى.

فقد أصبحت قرطبة في عهد الناصر والمستنصر «عروس الغرب» وأيضاً عاصمة الدنيا.

وقد وصلت الدولة في هذا العصر الذهبي ـ عصر الناصر والمستنصر ـ إلى أوج عزّها وسمت قوت‍ها فثبتت دعائم الملك وانتشر الأمن والسلام وعمت الرفاهية وفاض الرخاء وتجلت أب‍هة الملك، وعظمت هيبة الحاكم فملأت الرهبة قلوب الأمراء في الداخل، وملأ الرعب ملوك أوروبا وحكامها في الخارج.

ونتيجة للاستقرار السياسي، والازدهار الاقتصادي في هذا العهد، وصلت الأندلس إلى مكان بالغ الرفعة في الحياة الفكرية والأدبية، وأصبحت خلافة قرطبة في مصاف العواصم الكبرى. ونافست خلافة بغداد في الاهتمام بالفن، والآداب، والعلوم إن لم تكن قد تفوقت. ونافست قرطبة أيضاً في عظمتها القيروان والقاهرة وبخارى ودمشق وأصبحت قبلة الشعراء والكتّاب والفنانين والعلماء.

ووصلت سمعة العصر إلى المشرق فحج إلى قرطبة ـ عروس المغرب ـ كل عالم نابه، ووفد عليها كل أديب معروف، وبدأت نَهضة علمية لم تسمع عن مثلها دول أوروبا التي كانت تئن تحت الجهل والفقر والتخلف.

وكان لشيوع الحرية الفكرية وتشجيع العلماء وأكابرهم على اختلاف مذاهبهم تأثير كبير في هذه النهضة الثقافية التي اتسم بِها عهد الناصر وخليفته الحكم المستنصر.

وإنّ عهدي الناصر وابنه المستنصر عهدان متداخلان متكاملان ولا يستطيع باحث أن يفصل ما بينهما، ذلك لأنّ ما تعب الناصر في بذاره وسقيه استكمل في عهد المستنصر نموه ونضارته ونضجه. وقد كان عهد الناصر وابنه الحكم العصر الذهبي في تاريخ الأندلس، ازدهرت فيه الحضارة الأندلسية وبلغت الذروة. فقد وضع الناصر وابنه الحكم أساس نَهضة علمية أدبية ظلت من بعدهما أكثر من خمسة قرون.