حب ابن زيدون لولادة بنت المستكفي وأثره في إنتاجه الأدبي

د. سهى بعيون

1 /7/ 2014

 
 

لا بد لمن يتحدث عن الحبّ في الأدب الأندلسي من التوقف عند الشاعر العظيم ابن زيدون وحبّه للأميرة ولادة بنت المستكفي بالله، آخر الخلفاء الأمويين في القرن الحادي عشر الميلادي. إنّ قصّة حب ولادة وابن زيدون واحدة من أجمل قصص الحب في تاريخ الأندلس وفي تاريخ الأدب العربي بصفة عامة، ولولا هذا الحب ما وصل إلينا هذا الشعر الجميل لابن زيدون .

 

ولادة مبدأ حياة ابن زيدون، هام بِها، وقال فيها قصائده الجميلة وأعذب أشعاره وأرقها التي تعبر عن حبه لها. وكانت ولادة ليست كأي واحدة من النساء فكانت تتمتع بالجمال، وبالإضافة لجمالها كانت تتمتع بثقافة عالية، لها مجلس بقرطبة يجتمع فيه أشهر المثقفين والشعراء والأدباء. وكان ابن زيدون من أولئك الأدباء الذين ارتادوا مجالسها الأدبية وكان آنذاك في مَيْعة  الشباب ورونقه.

فكان لمجلسها أثر كبير في المجتمع القرطبي إبان حكم أبي الحزم بن جهور فيه، وأثرٌ أعمق في حياة ابن زيدون وشعره منذ أن التقيا في مجلسها، وهو وزير آنذاك في حكومة ابن جهور. لم يكن ابن زيدون أقلّ عراقة من الأميرة ولادة لتحدره من أسرة المخزومي المعروفة، فأُعجبت به بادئ الأمر وهام هو بها منذ أول لقاء في قصرها، وأحبته هي أيضاً. فأخذا يتبادلان الرسائل الشعرية بعد فترة وجيزة التي عبّرت لنا عن حبهما الكبير، ولكن ما وصل إلينا من شعر ولادة قليل جداً بالقياس إلى قصائد ابن زيدون فيها التي تملأ ديوانه بالإضافة إلى رسالته الهزلية التي وجّهها إلى خصمه في حبها الوزير ابن عبدوس. لقد أرسل إليها بعد أوّل لقاء هذين البيتين الرقيقين:

إلا ذكرتُكِ ذكرَ العَيْن بالأَثَرِ       ما جالَ بَعْدَكِ لحْظي في سَنا قمرٍ

إن الحِوارَ لمفهومٌ من الحَوَرِ         فهمتُ معنى الهوى من وَحْي طَرفِكِ لي

 

في حدائق مدينة قرطبة الأندلسية بدأ اللقاء الأول بين ابن زيدون وولادة. وفي أجواء مشبعة بالأريج والشذى، تتألب قوى الحسد، والحقد على القلبين النشيدين، والنغم بعد ما يزال طرياً يتعالى من القيثارة البرعم.

 وتتعاون الاضطرابات السياسية، التي كانت سائدة في ذلك العصر، وما نتج عنها من مؤامرات ووسائل لم ينج منها أي شيء حتى الحب الصادق بالإضافة إلى الغيرة، لِما ذكر أنّه في أحد الأيام استمع ابن زيدون إلى صوت جارية ولادة واسمها «عُتبة» وطلب منها أن تعيد، فغضبت ولادة إذ ظنت أنّ ابن زيدون يغازل جاريتها وسرعان ما أنشدت:

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا      لم تهو جاريتي ولم تتخيّر

وتركت غصناً مثمراً بجماله           وصخت للغصن الذي لم يثمر

ولقد علمت بأني بدر السما           لكن دهيت لشقوتي بالمشتري

 

بينما يرى البعض الآخر أنّ سبب القطيعة بين ابن زيدون وولادة هو نقد ابن زيدون لبيت قالته ولادة وهو:

سقى الله أرضاً قد غدت لك منزلا     بكل سكوب هاطل الوبل مغدق

وكان نقد ابن زيدون للبيت بأنّه أشبه بالدعاء على المحبوب من الدعاء له. وهنا اصطدمت ذات ولادة الشاعرية المتضخمة بذات ابن زيدون الناقدة، وحدثت القطيعة. وسنحت الفرصة لدخول الوزير أبو عامر بن عبدوس بينهما متقرباً لولادة وعدواً لابن زيدون. ولم نتتظر ولادة كثيراً فقد اختارت الوزير ابن عبدوس ليكون العاشق الجديد نِكاية بابن زيدون الذي اعتدى على سلطانِها الأدبي، ونظر إلى امرأة أخرى كما تعتقد، حاول ابن زيدون عبثاً تقديم اعتذارات تلو الأخرى ليستعيد حبه الضائع بلا جدوى، وما سمعت ولادة له. وكان ابن عبدوس قد استغل الخصام والهجران بين ابن زيدون وولادة فحاول التقرّب إليها، فأرسل إليها رسالة يشير فيها إلى منزلته العالية وجاهه الواسع مما أغاظ ابن زيدون، فبعث إليها برسالة «الرسالة الهزلية» كتبها على لسانِها وفيها يتهكّم ويسخر من ابن عبدوس ويستخف به بأوصاف شتى، وجعلها جواباً له على رسالته وطلب من ولادة أن تبعثها إليه، وقد ذاع أمر هذه الرسالة وانتشرت بين الناس. الأمر الذي زاد من غضب ولادة وزاد من بعدها عن ابن زيدون.

وينجح ابن عبدوس وأعوانه في تدبير مؤامرة ضد ابن زيدون لابعاده عن طريق ولادة. وبعد مدة قدم ابن زيدون إلى المحاكمة وحُكم عليه بالسجن. ومن سجنه راح ابن زيدون يئن ويتعذّب، ويكتب الكثير من القصائد الخالدة عن حبه الذي كان، ولكن ولادة كانت قد أصمت الأذن واغلقت مزاليج القلب حينما دلت قصائد ابن زيدون على إخلاصه لحبه لولادة، فإنّها بالتالي دلّت على طبيعة ولادة العابثة اللاهية التي تتساقى كؤوس الهوى مع ابن عبدوس، بينما الحبيب وراء القضبان يعاني الظلم والإنقهار والوحدة والإنتظار.

 

وبينما يتوقع الوشاة مواتاً للنغم في محبسه يصدر ابن زيدون عن شعر يجاري فيه شعراء الحكمة في المشرق العربي.

إن قسا الدهر فللما          ء  من الصخر انبجاس

 ولئن امسيتُ محبو            ساً فللغيث احتباس

فتأمل كيف يغشى           مقلة المجد النعاس

ويفتّ المسك في التر           ب فيوطا ويداس

واغتنم صفو الليالي           إنّما العيش اختلاس  

 

ويهرب ابن زيدون من سجنه ويعفو عنه الخليفة ويحاول استعادة حب ولادة برقيق الشعر وعذب القول علها ترق وتعود لأيام الحب الأول، فيرسل لها هذه القصيدة الشهيرة «النونية» التي يقول فيها:

أَضْحَى التَّنَائِي بَدِيْلاً مِنْ تَدانِيْنا                 وَنَابَ عَنْ طِيْبِ لُقْيَانَا تَجَافِيْنَا

ألا وقد حانَ صُبح البَيْنِ صَبَّحنا                حِينٌ فقام بنا للحِين ناعِينا

مَن مُبلغ المُبْلِسينا بانتزاحِهم                      حُزنًا مع الدهر لا يَبلى ويُبلينا

أن الزمان الذي ما زال يُضحكنا                 أنسًا بقربهم قد عاد يُبكينا

غِيظَ العِدى من تساقينا الهوى فدعوا           بأن نَغُصَّ فقال الدهر آمينا

فانحلَّ ما كان معقودًا بأنفسنا                     وانبتَّ ما كان موصولاً بأيدينا

لم نعتقد بعدكم إلا الوفاءَ لكم                      رأيًا ولم نتقلد غيرَه دينا

 

ومما يقول فيها:

حالت لفقدكم أيامنا، فغدت              سوداً وكانت ـ بكم ـ بيضاً لياليناً

إن الزمان ـ الذي ما زال يضحكنا       أنساً بقربكم ـ قد عاد يبكينا

لا تحبسوا نأيكم عنّا يغيّرنا                إن طالما غيّر النأيُ المحبينا 

 

إنّها أقوى قصيدة غزلية غناها المبدعون من شعراء الأندلس.

ويتولى ابن زيدون أرقى المناصب عند الملوك، ويصل إلى أعلى درجات المجد الاجتماعي والسياسي، ولكن لا المناصب ولا التكريم الذي نعم به في بعده القصري عن الحبيبة استطاع أن يطفئ نار الحب في قلبه، فظلّ يرسل القصيد إثر القصيد متغنيّاً بها، معرباً عن عمق حبه لها واشتياقه إليها بقصائد رائعة حتى آخر حياته.

لقد هام ابن زيدون بولادة هيماً جعله يسلك في شعره الغزلي مسالك من المعاني المستحدثة المستجدة العذبة السهلة لم تجر على لسان شاعر آخر في مثل حالته.

 

ظل ابن زيدون حتى آخر يوم في حياته شاعراً عاشقاً، فبالشعر عشق، وبالشعر خرج من السجن، وبالشعر نال حظوظه من الحياة.. ولم ينس أبداً ذكرى ولادة وأيامه الجميلة معها.. وقد كانت حياته المتقلبة، وحبه الكبير لولادة بالإضافة إلى أعماله الشعرية والنثرية المتميزة موضوعات لدراسات وإبداعات كثيرة.

فهو بحق «أهم شاعر وجداني ظهر في الأندلس.. إذ كان أول من اعتصر فؤاده شعراً عذباً فيه جوى وحرقة وهوى ولوعة» كما يقول الدكتور شوقي ضيف عنه..

لقد تمكنت ولادة من ابن زيدون حتى بِهجرانِها، فقد فجّرت به طاقات شعرية هائلة أغنت تراثنا الشعري، فلقد أحب وتعذب وعانى من أجل من حب ضائع وما تمكن من استعادته حتى آخر لحظة من عمره. ومات ابن زيدون وماتت ولادة وبقي حبهما يحكى وينشد.