الرحلات العلمية بين المشرق والأندلس وأثرها في ازدهار العلوم في الأندلس

د. سهى بعيون

1 / 11/ 2013

 

اعتاد العلماء المسلمون من اتخاذ الرحلات والأسفار بين مراكز العلم في العالم الإسلامي عادة حميدة وسنة كريمة للتزود بالعلوم واكتساب المعرفة، وقد تولد عن ذلك نشاط علمي باهر في الدولة الإسلامية. فكانت الرحلة في طلب العلم ولقاء الشيوخ، من أقوى الأسباب التي أعانت على خلق البيئة الثقافية؛ وهي من أهم السمات البارزة التي يوليها المؤرخون وأهل التراجم لمن يترجمون لهم من العلماء والأدباء، ويلحظ الدارس لكثير من سير العلماء عظم الإشارة برحلاتِهم العلمية في سبيل تحصيل العلوم ولقاء المشايخ.

 

لقد بدأت الأندلس تتصل بالمشرق، وبدأت علوم وآداب المشرق تحمل إلى المغرب عن طريق من وفد من المشرق إلى الأندلس من العلماء والمفكرين، وعن طريق رحلات طلب العلم يقوم بِها عدد من أهالي الأندلس إلى مراكز الإشعاع العلمي في مصر والحجاز والشام والعراق.

 

كان هناك تيار علمي زاخر بين المشرق والأندلس، ويتمثل هذا في أفواج العلماء الذاهبة والآيبة بين القطرين، حتى شُبه نشاطهم ذلك بحركة سير النمل في الذهاب والإياب. ولذلك نجد في تراجم كثير من العلماء الرحْلة من هنا إلى هناك، وبالعكس. فكانت البلاد الإسلامية بالنسبة للعلماء والرحَّالين كرقعة شطرنج، يذهبون فيها ويجيئون.

 

فالعالم الإسلامي كله كان معتبراً داراً واحدة، فإذا رحل الأندلسيون إلى المشرق، أو رحل المشارقة إلى الأندلس فإنّما يرحلون في دارهم، وتحت جو واحد مشبّع بالروح الإسلامية.

 

 

فكانت البلاد الإسلامية وحدة ثقافية واحدة رغم التجزئة السياسية التي أصابتها وجعلت منها عدداً كبيراً من الدويلات الهزيلة المنقسمة، وكانت الأفكار والكتب والبضائع والأشخاص تنتقل بحرية تامة، والأغلب أنّ انتقال الكتب كان يتم من الشرق إلى الغرب أي إلى الأندلس حيث أن الشرق كان ـ في عصوره الأولى على الأقل ـ متقدماً على الأندلس في التأليف.

 

فلم تكن هناك حدود ولا سدود تفصل أرض المسلمين وإن تشعبت إلى ممالك متفرق بعضها عن بعض، بل كانت الرحلة دائمة والأسباب موصولة، فلم يكن الفكر في المشرق بمعزل عن نظيره في المغرب والأندلس، ومن ثم كان التفاعل قائماً والعطاء متصلاً.

 

فكان للعلاقات العلمية بين المشرق والأندلس أثر كبير في ازدهار الحركة العلمية وتنشيطها، فقد كان أولئك العلماء الراحلين إلى المشرق أو المشارقة الراحلون إلى الأندلس يحملون معهم كثيراً من العلوم والمعارف المختلفة إلى جانب أعداد كبيرة من المصنفات والتآليف في شتى فروع المعرفة، وكان لهذا اللون من النشاط العلمي ثمرتان مباركتان، هما ما يحمله العالم في صدره من علم ومعرفة، وما ينقله معه إلى الأندلس من كتب قيّمة. فأخذ الأندلسيون في تلقي تلك العلوم من أفواه العلماء ومن بطون الكتب الواردة عليهم فازداد النشاط العلمي بصورة سريعة ومتنامية.

 

إنّ الرحلات العلمية لم تنقطع بين علماء المشرق وعلماء الأندلس، وإليها يعود الفضل في اتساع التبادل الفكري بين المشرق والأندلس، ذلك التبادل الذي جنت الحضارة الإسلامية في الأندلس ثماره على نطاق واسع. فقد كان للرحلات العلمية بين المشرق والأندلس فضل عظيم على ازدهار النشاط العلمي في الأندلس في مختلف جوانبه، من نُهوض العلوم والآداب.

 

وقد تألق بعض العلماء الأندلسيين وأبدعوا فصنفوا بأنفسهم مصنفات قيّمة. فكانت هذه الرحلات منها وإليها لها منفعة، فمنفعتها أنّها نشرت العلم ما شاء أن ينتشر، وكوّنت علماء نابغين، ووسّعت الثقافة بين الشعب الأندلسي.