المستعربون في الأندلس

د. سهى بعيون

1 /12/ 2018

 تعريف المستعربين

المستعربون هم نصارى الأسبان الذي عاشوا مع العرب في الأندلس وتعرّبوا وتبنّوا في ظل الحكم الإسلامي كافة أوجه ثقافة الحكام، وكان لهم إسهام في الحضارة الأندلسية. وإنّ الاستعراب يمثّل تأثير الثقافة العربية في غير المسلمين من الأسبان.

وتبنّى المسيحيون في ظل الحكم الإسلامي كافة أوجه ثقافة الحكام إلاّ فيما يختص بالدّين، لدرجة أنّهم عُرفوا بالمستعربين Mozarabes .

ولقد عرف هؤلاء النصارى في العصور الوسطى بالمستعربين وما زالوا يعرفون به حتى اليوم. وكانت اللاتينية هي اللغة التي يتكلمون بِها ويتداولونَها فيما بينهم، ويؤدون بِها شعائر دينهم.

 لفظ ((مستعرب))، وجمعه مستعرَبون، لم يظهر في النصوص أو الكتابات الرسمية إلا في زمن متأخر على خلاف ما يظن، وربما كان اللفظ جارياً على الألسن في اللغة الدارجة، فأنّ هذا اللفظ لا يظهر فيما لدينا من كتب المؤرخين والجغرافيين والفقهاء وأهل الأدب ومن إليهم، ولكنه ظهر في وثائق العقود الجارية بين الناس ابتداء من القرن الحادي عشر الميلادي، ثم في كتابات نصارى الأندلس سواء باللاتينية أو الأسبانية القديمة (عجمية الأندلس) ابتداء من القرن الحادي عشر أيضاً. فإنّ استعمال هذه الكلمة في إسبانيا النصرانيةلم يبدأ إلاّ عندما استولى ملوك النصارى على بلاد فيها أسبان نصارى مستعربون. وخلال القرن الثاني عشر ظهرت الكلمة في وثائق النصارى الأندلسيين في البلاد التي استولى عليها النصارى، وكانوا يكتبون هذه الوثائق بالعربية.

الأصول والطبقات الاجتماعية للمستعربين

لقد جرت مجانسة مجتمع خليط تحت الاسم العام للمستعربين، وتمت مساواته بواسطة مسطرة واحدة هي الدين: الدين النصراني على الرغم من أنّ السكان النصارى الذين مكثوا في ظل الحكم الإسلامي لم يكونوا من جنس واحد، لا في مستواهم الاجتماعي، ولا في مسلكهم.

فقد ضم اسم المستعربين ممثلي طبقة النبلاء من القوط الغربيين والأسر الرومانية العريقة النسب، كذلك ضم اسم المستعربين أغلبية من الخدم والمستوطنين وأبناء الطبقات الدنيا المنحدرين عن المجتمع الهسباني القوطي السابق.

لقد أسهمت الدراسات التي جرت مؤخراً في إيجاد فهم أفضل للأصول الاجتماعية لمسيحيي الأندلس. فقد كان المؤرخون القدامى يعتبرون المستعربين مسيحيين من أصل قوطي غربي انحدروا من أصلاب مسيحيي شبه الجزيرة الايبيرية في الفترة السابقة على الحكم الإسلامي، وتجمعوا في جاليات مسيحية تعكس أبرشيات المرحلة الرومانية ـ القوط الغربية. وبكلمات أخرى كان ينظر للكنيسة الإسبانية، حيث مقر كرسي أسقفها في طليطلة، على أنّها امتداد داخل المجتمع الإسلامي. وقد اندمجت ـ أو أعيد ادماج ـ هذه الجاليات جزئياً في المجتمع المسيحي عن طريق الهجرة (بين القرنين الثاني والسادس الهجريين / الثامن والثاني عشر الميلاديين) وبخاصة بعد استيلاء ملك قشتالة وليون على طليطلة عام 478ه‍/ 1085م، وحملات ألفونسو الأول ملك أراغون على الأندلس والمناطق الشرقية من شبه الجزيرة الايبيرية بين عامي (519 و 520ه‍/1125 و 1126م).

غير أن الدراسات الحديثة أوضحت أنّ بعض المسيحيين الأندلسيين لم يكونوا من أصول قوطية غربية. فقد كان هناك مسيحيون أصلهم من الشرق الأدنى ورد ذكرهم في المصادر العربية كحرفيين ومهنيين (في الطب والتجارة والعمارة والترجمة وغيرها) كما كان هناك مسيحيون قدموا من الأجزاء الشمالية لشبه الجزيرة الايبيرية أو من المناطق الواقعة وراء جبال البيرينيه، أو حتى من المغرب. فقد جذب ثراء الأندلس وسهولة النفاذ إلى مجتمعها أعداداً كبيرة من الأجانب مما مكن المسيحيين وغيرهم من تحصيل مكان لهم بطريقة أو بأخرى في مجتمعها الإسلامي. وقد حظي المسيحيون الأجانب بالمكانة القانونية نفسها التي للمسيحيين ذوي الأصول القوطية الغربية. ومع ذلك، فقد كان لهؤلاء خصائص يجب أخذها بعين الاعتبار. وهي توجب علينا اعتبار هؤلاء مستعربين محدثين (Neo-Mozarabs) إذا أردنا أن نفهم تاريخ التجمعات المسيحية في الأندلس بشكل أفضل. ولا يعني وجود هؤلاء المستعربين المحدثين المنعزلين وذوي الأصول الأجنبية أنّه كان هناك تجمعات مسيحية سابقة على الفتح الإسلامي في تلك الأماكن التي عاشوا فيها.

ومن أمثال المستعربون الجدد في عهد الخلافة نذكر الراهب جيرار الكريموني الفرنسي وهو فرنسي  قصد الأندلس وأخذ على أساتذتِها في مدارس ريبول وأشبيلية وقرطبة، الذي رقي إلى درجة البابوية وصار اسمه البابا سلفستر الثاني، وترجم نحو ثمانين كتاباً من العربية إلى اللاتينية حتى أصبح أوسع علماء عصره ثقافة بالعربية والرياضيات والفلك. واشتغل بالترجمة خلال فترة الخلافة.

وقد بقيت مع ذلك مجموعات عديدة من المستعربين حتى ن‍هاية عهد ملوك الطوائف؛ فعند احتلال النصارى لطليطلة عام 1085م وجدت فيها عدّة كنائس مع رعاياها. وقد بقيت وثائق تاريخية عربية وفيرة خاصة بالمستعربين (ولكنها كلها متعلقة بالعصر النصراني). كما يوجد قطاع من المستعربين لا يزال يثير الاهتمام على ما يظهر، وقد ذكر في عدّة فقرات من الأخبار العربية الخاصة باستيلاء السيد على بلنسية، حيث كان هؤلاء في هذه المدينة في ذلك العصر. كما تشير مذكرات عبد الله أمير غرناطة كذلك من دون غموض إلى وجود طبقة شعبية نصرانية من الفلاحين مهمة نسبياً في بعض القطاعات من منطقة مالقة في نِهاية القرن الحادي عشر الميلادي. ويرد بعض الأسماء لبعض الأعيان النصارى الذين كانوا في خدمة ملوك الطوائف، ولكنهم مع ذلك قليلون، وكانوا على ما يظهر من الحالات الشاذة.