ازدهار الدراسات القرآنية في الأندلس

 د. سهى بعيون

1 /9/ 2019

 

حظيت الدراسات القرآنية باهتمام كبير من علماء الأندلس، إذ كان من الطبيعي والقرآن الكريم هو مصدر التشريع، ومنبع الأحكام أن ينال الكثير من عناية العلماء.

 

كان لأهل الأندلس مشاركة عظيمة في ازدهار الدراسات الدينية المتعلقة بالقراءات، فقد نَمَتْ هذه العلوم في الأندلس، وظهر قرّاء قديرون استطاعوا أن يقدموا لهذا العلم المهم من علوم القرآن الشيء الكثير، بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إنّ أهل الأندلس كان لهم الفضل في إثراء المكتبة الإسلامية بكتب القراءات. فكان علم القراءات من العلوم التي برز فيها الأندلسيون وأحرزوا فيها نتائج رائعة فاقوا غيرهم من علماء الأقطار الإسلامية الأخرى.

 

وجدير بالذكر أن نشير إلى ما ذكره المقدسي من أنّ قراءة نافع هي القراءة المنتشرة في الأندلس، مما ينم عن غلبتها على ما سواها من القراءات.

وكان الخلفاء والأمراء حريصين على تقريب القراء والإفادة من علمهم في تنشئة أبنائهم وتربيتهم التربية الدينية الصالحة، فالخليفة المستنصر رحب بمقدم العلامة علي ابن محمد الأنطاقي (299ـ377ه‍/911ـ987م) الذي دخل الأندلس سنة (352ه‍/963م) وأفاد الحكم وسواه من عمله.

كما أنّ المنصور بن أبي عامر عيّن العلامة المقرئ أحمد بن علي الربعي (توفي سنة 401ه‍) مؤدباً لابنه عبد الرحمن.

 

فقد شهد هذا اللون من الدراسات القرآنية نشاطاً باهراً في عصر ملوك الطوائف، ورعت مملكة دانية العلوم القرآنية وتألّق في هذه الفترة كبار علماء القراءات الأندلسيين وكان رائدها شيخ القراء أبا عمرو الداني.

هو أبو عمرو عثمان بن سعيد بن عثمان القرطبي الداني من بلاط مجاهد العامري أمير دانية (ت 444ه‍/ 1052م)، إمام وقته في الإقراء محدث أديب. رحل إلى المشرق سنة (397ه‍)، وطلب علم القراءات فرأس فيه، وقرأ وسمع الكثير، وعاد إلى الأندلس فتصدّر بالقراءات وألّف فيها. وعرف الداني بنشاطه الجم في تدريس القراءات وتعليمها حتى بين النساء. ويعتبر الداني أحد مفاخر الأندلس ومن يشار إليه بالبنان إذا ما ذكر أقطاب‍ها في علوم القرآن، فقد كان واسع المعرفة بالقراءات، عارفاً بدقائقها بارعاً في فهم أسرارها، يدل على ذلك ما خلفه بعد وفاته من مصنفات وتآليف قيّمة.

 

والحق أنّ الداني اكتسب منزلة سامية بين علماء عصره ومن أتى بعدهم ونال من الثناء ما هو جدير به، حتى عدّ فريد عصره في القراءات، وأنّه لم يدانِهِ أحد في حفظه وتحقيقه ومعرفته بالقراءات ومعانيها وطرقها، فكان العلماء من بعده عالة على كتبه ومصنفاته.

 

ومن مؤلفات أبي عمرو: «جامع البيان في القراءات السبع وطرقها المشهورة والغريبة» وهو من أعظم كتبه ويشتمل على نيف وخمسمائة رواية وطريقة، حتى قيل: إنّه جمع فيه كل ما يعلمه في هذا العلم، وله كتاب «إيجاز البيان في قراءة ورش»، وكتاب  «التحديد في معرفة التجويد» و«التمهيد» لاختلاف قراءة نافع عشرين جزءاً، وكتاب «التيسير» في القراءات، و«طبقات القراء وأخبارهم» في أربعة أسفار ذكر فيه المقرئين من الصحابة والتابعين ومن أتى بعدهم إلى عصره على حروف المعجم.

فلم يكن أحد مثل أبي عمرو الداني في عصره إتقاناً للقرآن وإجادة للقراءات، ولا ريب أنّ أبا عمرو بِهذا الجهد العلمي الكبير قد احتل منزلة فريدة ليس في وطنه الأندلس فقط وإنّما خارجها أيضاً، فكان بلا مبالغة فريد عصره في القراءات.

 

وما من شك أنّ هؤلاء القرّاء لعبوا دوراً هاماً في نشاط علم القراءات وازدهار دراساته، وأسهموا في حركة التأليف في العلوم القرآنية. وإنّ الكثير منهم قد تركز وجودهم في المناطق الشرقية للأندلس وخاصة في إمارة دانية عاصمة مملكة مجاهد العامري.

 

وكان لبعض النساء مشاركة في ازدهار علم القراءات. تذكر الروايات أنّ العلامة المقرئ عثمان بن سعيد بن عثمان المقرئ (ت 444ه‍/1052م) أقرأ بمدينة المرية إحدى النساء الماهرات في القراءات وتدعى ريحانة فقرأت عليه القرآن بِها، وكانت تقعد خلف ستر فتقرأ، ويشير لها بقضيب بيده إلى المواقف، فأتمت الأحرف السبعة عليه، وطلبته الإجازة فرفض ولكنه كتبها لها فيما بعد.

 

ومما يدخل في علوم القرآن الكريم علم التفسير، والتفسير هو الشق الثاني من الدراسات المتعلقة بالقرآن الكريم، وقد حظي هذا العلم باهتمام كبير من علماء الأندلس، فأقبلوا على النظر في كتاب الله ومحاولة تفسيره مع الاستفادة من جهود العلماء الذين سبقوهم في هذا المجال. وأظهر العديد من علماء الأندلس في ميدان التفسير نبوغاً كبيراً.

 

وينصب اهتمام هذا العلم على توضيح معاني القرآن الكريم وتبيين أسباب نزول بعض سوره وآياته، وشرح الأحكام المتعلقة به، وقد سادت الأندلس مدرسة التفسير بالمأثور التي تعتمد على النقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته والتابعين وأقوال العلماء.

 

فقد قام الأندلسيين بمشاركة طيبة في ميدان التفسير، فنشطوا في ميدان البحث والتأليف حول القرآن الكريم وما يتعلق به من تفسير وأحكام فأخرجوا في ذلك إنتاجاً علمياً قيّماً.

 

ففي أواخر عصر ملوك لمع نجم العلامة الكبير محمد بن عبد الله بن العربي الإشبيلي، كانت له مشاركة في الفقه والحديث، وكانت له أيضاً مشاركة جيدة في التفسير، فقد صنف كتاب «أنوار الفجر في تفسير القرآن» وقضى في تأليفه عشرين سنة وبلغت أوراقه ثمانين ألف ورقة.

 

وإنّ بعض هؤلاء العلماء كانوا موسوعيين، فنجد أحدهم بارعاً في العلوم التطبيقية وله مشاركة جيدة في التفسير أو الحديث، ومن هؤلاء: علي بن سليمان الزهراوي من أعلام مملكة غرناطة (ت 431ه‍/1039م) فقد كان عالماً كبيراً في التفسير والقراءات والفرائض عارفاً بعلوم الدين، بالإضافة إلى علم الفلك والرياضيات. وكان إماماً وخطيباً لجامع مدينة غرناطة. صنف في التفسير كتاباً كبيراً قيّماً. وله من التصانيف «المعاملات» على طريق البرهان، و «الزهراوي» في الطب.

 

ازدهرت الدراسات القرآنية في الأندلس، فكان للأندلسيين مشاركة عظيمة في ازدهار علم القراءات، كما كانت لهم مشاركة طيبة في ميدان التفسير، وإنّ علم التفسير لقي من الأندلسيين عناية كبيرة، وألّفوا فيه مؤلفات ضخمة.