المؤرخ حيان بن خلف

 د. سهى بعيون

1 /7/ 2012

 

هو حيّان بن خلف بن حسين بن حيان، أبو مروان (377ـ 469 ه‍/ 987ـ 1076م)، مؤرخ، بحّاث، من أهل قرطبة، هو أعظم مؤرخ أنجبته الأندلس في تاريخها، «من أعلام الدولة الجهورية». كان قوي المعرفة، مُستبحراً في الآداب بارعاً فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه، وأحسنهم نظماً له.

 

نشأ أبو مروان نشأة علمية، أمّا أساتذته فهم قليلون، يجيء في مقدمتهم والده خلف بن حسين القرطبي (المتوفى سنة 427ه‍ ). إنّ خلف بن حسين كان كاتب المنصور محمد ابن أبي عامر منشئ الدولة العامرية وكاتم أسراره ومستودع أفكاره، وبقي في نفس موقعه من الدولة العامرية في عهد المظفر عبد الملك بن المنصور (ت 392ه‍/1002م). وقد حرص خلفاً على أن يورث ولده علماً. فكان خلف هو المعلم الأول لولده على عهد الطفولة، وكان أيضاً المعلم الأخير له على عهد الكهولة، فكان خلف يلقي بتجاربه وحكمه وأسرار الدولة العامرية إلى ولده. فحفظ الأب للابن كنزاً من العلم والتجربة أكثر مما حفظ له من الجاه والمنصب والمال.

 

وتلقى علومه في اللغة والأدب على يد أبي عمرو أحمد بن عبد العزيز بن فرج بن أبي الحباب النحوي صديق أبي علي القالي.

 

وبرع أبو مروان في التاريخ والأدب مما هيأ له مكاناً علياً في الدولة العامرية حيث انتظم في سلك وظائفها فشغل وظيفة صاحب الشرطة أو صاحب المدينة لفترة من الزمن.

ونظراً لبراعته في التاريخ وجودة إنشائه وجمال أسلوبه في الكتابة التاريخية فقد عُيّن في وظيفة علمية تقوم على إملاء التاريخ في ديوان الرئيس أبي الوليد بن جهور بمرتّب كبير.

 

وتتجلى لنا مكانة ابن حيان التاريخية فيما خلّفه من دراسات وكتابات تاريخية نفيسة يأتي في مقدمتها كتابه «المقتبس من أنباء أهل الأندلس» لاشتماله على تاريخ الأندلس ابتداء من الفتح الإسلامي سنة 93ه‍ إلى زمن قريب من مولده، أي نِهاية خلافة «الحكم المستنصر» الذي توفي سنة 366ه‍. ويقع في عشرة أجزاء، طبع جزء منه في سيرة الأمير عبد الله بن محمد الأموي بقرطبة وأحداث عصره.

 

وله كتاب «المتين» في تاريخ الأندلس أيضاً، أكبر من المقتبس، ويقع في ستين جزءاً. وهو الكتاب الذي عرف بالتاريخ الكبير، وهو يشمل عصر أبي مروان كله، ومن ثمّ كان «المتين» حصيلة متابعة، وحصاد معايشة، وثمرة شهادة، فسجل فيه أبو مروان كل شؤون الأندلس السياسية والحربية والحزبية والاجتماعية والثقافية والأدبية، مع ترجمة وافية للمعاصرين له من العلماء والحكام والأدباء والوزراء والقواد، وقد رصّع المؤلف كتابه هذا بمقطوعات من النثر الرفيع، وقصائد من الشعر البديع.

 

وله كتاب «أخبار الدولة العامرية» وهي دولة لأبي مروان فيها نسب وولاء، فقد كان أبوه كاتبها على عهد منشئها المنصور بن أبي عامر، وفي ظلها نشأ وتربى أبو مروان، وكان رفيق دراسة لثاني أمرائها المظفر عبد الملك. وما قد شاهده أبو مروان من أحوال تلك الدولة الفتية القصيرة الأجل قد مكّن له من كتابة تاريخ دقيق رحيب للعامريين ودولتهم التي لم تعش غير ثلث قرن من الزمان أو قريباً من ذلك أي من بداية خلافة هشام ابن الحكم المستنصر سنة 366ه‍ أو بعدها بقليل إلى زمن إطاحة محمد بن هشام بِهم وثورته عليهم سنة 399ه‍.

وله أيضاً كتاب «البطشة الكبرى» وهو عنوان يدعو إلى الإثارة، وموضوعه هو بطش المعتمد بن عباد غدراً بعبد الملك بن جهور آخر ملوك هذه الأسرة الجليلة من حكام قرطبة على زمن الطوائف، فكتاب البطشة الكبرى إذن يعني التاريخ للنكبة التي أوقعها المعتمد بن عباد بالأسرة الجهورية، وهو آخر كتاب ألّفه ابن حيان، ولما كان تاريخ استيلاء المعتمد على قرطبة هو عام 462ه‍، فإنّ ابن حيان يكون قد ألّف هذا الكتاب وهو في الخامسة والثمانين من عمره أي قبل وفاته بسبع سنين، وهو على الأرجح آخر ما خطه ابن حيان من كتب، وربما كان جزءاً من كتاب.

وإذا كانت ثمة ملاحظات حول كتب أبي مروان بن حيان، فهي أنّها كتبت كلها في تاريخ الأندلس، ولم يحاول أبو مروان لسبب أو لآخر أن يكتب في تاريخ أي قطر من أقطار العالم الإسلامي.

ورغم المنزلة العظيمة التي نالها ابن حيان بين مؤرخي عصره ومن أتى بعده إلاّ أنّه لم تصلنا مصنفاته كاملة، وكل ما وصلنا قطع متفرقة من كتابه المقتبس.

وابن حيان في كتاباته التاريخية يبدو حريصاً على استقصاء ما يمكن استقصاؤه من الوثائق التاريخية. فيورد منها ما لا نكاد نجده في أي مصدر آخر من مصادر التاريخ الأندلسي.

 

فهو بأسلوبه وبطريقة كتابته في طليعة المؤرخين العرب الذين نظروا إلى التاريخ نظرة شاملة تتناول نواحي النشاط الإنساني في الحقبة التي يؤرخها؛ يذكر المعالم البارزة للعصر ثم يستطرد إلى التفاصيل فلا يدع جزئية دون أن يلم بِها، ويطلق على الشخصيات التي يؤرخ لها أحكاماً سديدة لا مجاملة فيها ولا محاباة بل يعطي كل ذي حق حقه، فيذكر الفضائل كما يذكر النقائص. وتتجلى في كتابات ابن حيان أهم صفات المؤرخ القدير، وهو الالتزام بالموضوعية وتحري الحقيقة والالتزام بالصدق والصراحة في آرائه وعدم التملق والتزلف، فهو يدلي برأيه من غير تحامل أو هوى. والأهم ما ذكر عنه أنّه كان دقيق في نقده.

 

كان ابن حيّان من أكبر علماء التاريخ لا في التأليف ولكن أيضاً في طريقته النقدية التحليلية، فله طريقته الخاصة في العرض. فهو يغربل ما بين يديه من معلومات تاريخية بميزان نقدي علمي سابق لعصره حتى كأنّه من نتاج هذا العصر. وكان أحياناً يذكر التاريخ الهجري للحادثة والمقابل الميلادي ويحدد ساعة الحادث وهو ما قد يقلّ وجوده لدى المؤرخين في ذلك الوقت. فقد كان من الدقة والبراعة في كتابة التاريخ الأندلسي بحيث يحسب كبير المؤرخين الأندلسيين.

 

كان ابن حيان في كتاباته التاريخية ثاقب النظر عميق الفكر يبدي رأيه وحكمه فيما يعرض من قضايا ويسعى إلى الكشف عن أسباب الوقائع ويناقش كل ذلك في علم وفهم وذكاء. وأسلوبه في التاريخ أسلوب رفيع بليغ، وعبارة مرسلة لا تكلّف فيها ولا تصنع ودقة في الألفاظ التي يختارها.

فقد عمد ابن حيان إلى استعمال لغة أدبية راقية جعلت من كتبه أقرب شيء إلى أدب ممزوج بالتاريخ، وكتب تاريخ صيغت بقلم تسامت رقته وتأنقت صنعته، ولذلك كانت كتب أبي مروان بن حيان متميزة بتلك السمات بين سائر كتب التاريخ على نفاسة قدرها ومكانة أصحاب‍ها. وهو يلتزم بِهذا الأسلوب في كل كتاباته التاريخية على تميز موضوعات‍ها من سياسة وحرب وتراجم ووصف للحياة العامة وسرد للأخبار الهامة.

فقد كان ابن حيان يكتب التاريخ بقلم الأديب وأمانة المؤرخ، فهو بغير مراء أديب المؤرخين ومؤرخ الأدباء.

 

شارك أبو مروان في عالم الأدب والكتابة بعدد كبير من الرسائل التي تنتمي إلى النثر الفني، وكان يطلق عليها الرسائل الإخوانية، كما عمد إلى الترجمة لأعيان زمانه من العلماء والأدباء، والحكام والوزراء من خلال أسلوب أنيق موسوم بالصنعة، وكثيراً ما كان يصوغ هذه الرسائل أو تلك التراجم في إطار قصة معجمة أو رواية مطربة، لقد أنشأ أبو مروان رسائل في التهنئة والشكر والسياسة والهجاء، إلى غير ذلك من صنوف الشكل الفني للعمل الأدبي.  لقد كان أبو مروان بن حيان ممن تعاطى الأدب الرفيع بحيث يعد أديباً في موكب الأدباء.

إنّ أبا مروان بن حيان قد أنشأ مدرسة فنية في التراجم الأدبية، سار على دربِها ونسج على منوالها كثيرون ممن جاءوا بعده، واعتمدوا على كتبه وبخاصة ابن بسام في «الذخيرة» والفتح بن خاقان في «قلائد العقيان».

 

وأخيراً فإنّ ابن حيان بمنهجه العلمي المتميّز، وطريقته الفريدة في عرض التاريخ إلى جانب ما تمتع به من صفات المؤرخ القدير قد فرض مكانته العلمية ومنزلته السامية في علم التاريخ على جميع المهتمين بالدراسات التاريخية وخاصة الأندلسية منها، حتى عدّ أعظم مؤرخ أنجبته الأندلس في تاريخها والغرب كله الإسلامي والمسيحي منه على السواء طوال العصور الوسطى.