أثر تنافس ملوك الطوائف العلمي في ازدهار العلوم في الأندلس

 
د. سهى بعيون
1 /6/ 2012
 
يطلع القرن الخامس الهجري أي عصر ملوك الطوائف على بلاد الأندلس فإذا بالحضارة الإسلامية بكل أسباب‍ها ومقومات‍ها قد كستها أنوار المعرفة. عرف عصر ملوك الطوائف بالضعف السياسي، ونشوب الخلافات والصراعات بين ملوك المسلمين في الأندلس. وعلى الرغم من ذلك الضعف وتلك الخلافات، فقد ظلت الحركة العلمية والفكرية في تلك الحقبة خصبة؛ إذ لم يتوان أمراء الطوائف عن احتضان النشاط العلمي، ودعمه على نحو يعلمه من خبر تاريخ الأندلس. فالمستوى العلمي الذي كانت عليه الأندلس خلال عصر الطوائف يختلف عن الحالة السياسية. سمت نَهضته فوق هذه الحالة، وبرزت قوية وضّاءة.
 
تقسّمت الدولة الأندلسية إلى دويلات مستقلة، وكان للنزاع السياسي والصراع العسكري بين تلك الممالك والإمارات أثر في تولدألوان من السلوك الحضاري الذي يستهدف الظهور بمظهر الفخامة والعظمة والتألّق في شتى ميادين الحضارة لما يلمسوه في ذلك من تميز لبعضهم على بعض. فاستكثر ملوك الطوائف في مختلف عواصمهم من مهاد الحضارة الخصبة، وضربوا مثلاً جديداً لما يمكن أن يفعله الذكاء والتنافس، بل التفاخر أحياناً.
 
فكانت ملوك كل مدينة تُزهى بالعلماء، وتقرّب‍هم، وتعتقد أنّهم أحسن دعاية لهم؛ وقد ساعد ذلك أنّ البلاغة، وإتقان الأدب كانا أيضاً وسيلة للوزارة. وكانت قصور الطوائف تتنافس في هذا الميدان وتتسابق، شعوراً منها بما تجتنبه من وراء ذلك من فخر ومجد، وما تسجله من روائع المنظوم والمنثور من ذخر وذكر.
 
فبدأ ملوك الطوائف يقلّدون الخلفاء الأمويين في تعلّقهم بالعلم والعلماء وتشجيع الكتاب والمؤلفين، واتخذ كل ملك منهم لنفسه بطانة من الشعراء يقرّب‍هم ويغدق عليهم ويرقيهم إلى منصب الوزارة ليشيدوا باسمه وليمجدوا أفعاله ويخلدوا ذكره. فكان لملوك الأندلس غرام باصطفاء كبار العلماء للوزارة، يشتملون على الدولة ويدبرون أمرها، ومنهم من برزوا في السياسة والإدارة وقيادة الجيوش تبريزهم في العلم والأدب، وكانوا يتشددون كثيراً في البحث عن أصولهم، والأغلب أنّهم كانوا من أصول عربية.
 
فكان أولئك الملوك ـ أو بعض منهم على الأصح ـ حريصين على أن تضم بلاطات‍هم أكبر عدد من العلماء النابغين في شتى حقول المعرفة، بل وجدنا بعضهم يسعى جاهداً في اجتذاب ما لدى منافسيه من علماء وأدباء.
 
وظاهرة المنافسة بين أولئك الملوك بيّنة واضحة، نلمسها من خلال دراستنا لسيرهم ومواقفهم تجاه أرباب العلم والمعرفة، بالإضافة لدراستنا لحياة كثير من العلماء والأدباء الذين وردوا على قصور أولئك الملوك وتفرقوا في تلك المراكز الحضارية حسب اعتقاد كل منهم بأفضلية بلاط على بلاط آخر من حيث التكريم والتشجيع.
فقد بلغ من تنافس الملوك على الشعر وأهله ما حكاه الشَّقُنْدي (توفي سنة 629ه‍/ 1232م) من أنّ أحد شعرائهم لما رأى منافستهم في أمداحه حلف أن لا يمدح أحداً منهم بقصيدة إلاّ بمائة دينار، وأنّ المعتضد بن عباد على ما اشتهر من سطوته وإفراط هيبته كلفه أن يمدحه بقصيدة فأبى حتى يعطيه ما شرطه في قسمه.
وبلغ من شغف المعتمد بتقريب العلماء وملازمتهم بلاطه محاولته اجتذاب الشاعرين الأديبين أبو العرب الزبيري (فتوفي سنة 506ه‍/1112م) ، وأبو الحسن علي بن عبد الغني الحُصْري (توفي سنة 488ه‍/1095م) ، فقد بعث المعتمد بن عبّاد إلى أبي العرب الزبيري خمسمائة دينار، وأمره أن يتجهّز بِها ويتوجه إليه، وكان بجزيرة صقلية وهو من أهلها، وبعث مثلها إلى أبي الحسن الحُصْري وهو بالقيروان.
ولم يكن هذا الأمر موقوفاً على الملكين المعتضد والمعتمد بل كان غيرهم من ملوك الطوائف على شاكلته، أمثال بني الأفطس في بطليوس، وبني هود في سرقسطة، وبني ذي النون في طليطلة، ومجاهد العامري في داينة.
 
فإنّ أولئك الملوك كانوا مسارعين في اجتذاب العلماء إلى عواصمهم، متنافسين في تقريب النابغين منهم، وكانوا يحيطون‍هم بضروب التكريم وألوان التشجيع المادي والمعنوي، ولئن وصمهم التاريخ بالتخاذل والضعف السياسي والعسكري، فإنّه أمين على حفظ مآثرهم العظيمة وآثارهم الكريمة في ميادين العلم والمعرفة والارتقاء بِها قمة الازدهار وذروة التطوّر، وهو أمر تشهد بصحته وحقيقته كتب التاريخ والتراجم والسير.
 
وكان من أثر ذلك التنافس العميق بين أولئك الملوك أن غلب على كل بلاط من بلاطات‍هم لون من ألوان المعرفة والأدب والفن الرفيع، وتميز كل منهم بميزة خاصة، فامتاز صاحب بطليوس بالعلم الغزير، وامتاز ابن ذي النون صاحب طليطلة بالبذخ البالغ، وفاق ابن رزين صاحب السهلة أنداده في الموسيقى، واختص المقتدر بن هود صاحب سرقسطة بالعلوم، وبرز ابن طاهر صاحب مرسية أقرانه بالنثر الجميل المسجوع، أما الشعر فكان أمراً مشتركاً بينهم جميعاً، يلقى منهم كل رعاية، ولكن عناية بني عباد أصحاب إشبيلية الجميلة به كانت أعظم وأشمل.
وإنّ بني ذي النون، وإن تميّزوا بالبذخ في ميدان العمارة والبناء والتشييد، إلاّ أنّهم وخصوصاً المأمون من بينهم كانت له أياد بيضاء على الحركة العلمية، فشهد بلاطه وعاصمة مملكته أعداداً كبيرة من العلماء، وبخاصة أولئك المتخصصون في العلوم البحتة والتجريبية كالرياضيات والفلك والطب إلى جانب الفلسفة والمنطق، فخرج من طليطلة أعلام بارزون فيها، بل إننا وجدنا تلك المدينة تتفوق على غيرها من المدن في تخريج علماء الفلك والرياضيات والزراعة وغيرها من العلوم التطبيقية، وهذا يؤكد دور بني ذي النون في الحركة العلمية، فلم تكن جهودهم قاصرة على الناحية العمرانية فقط.
 
فإنّ كل دولة من هذه الدول حاولت أن تكون بؤرة ثقافة وهالة ورياسة، وإن اختلفت نوع الثقافة المسيطرة.  فبنو عباد للأدب والأدباء وفي بلاطهم شعراء كبار كابن عمار ومنهم أنفسهم شعراء وأدباء.
 
فقد كانت الأندلس وحواضره في عهد ملوك الطوائف مركزاً للعلم والمعرفة. فقرطبة وإشبيلية والمرية وطليطلة وبطليوس وبلنسية وغيرها عاشت عواصم ثقافية، ضمت العلماء والمعاهد، كما كانت هي وعموم مدن الأندلس مليئة بالمكتبات الخاصة والعامة. وكانت لعديد من الأمراء مكتبات ضخمة، وعنايتهم بِها كبيرة. وغدت قصورهم منتديات أدبية ومجامع حقة للعلوم والفنون. ولقد كانت هذه القصور، أكبر مبعث لهذه النهضة.
 
ويُقَدّم عصر الطوائف إنتاجاً غزيراً وفيراً ومشرقاً مبدعاً في مختلف الميادين. فهو زاخر بالمؤلفات الأمهات والأصول الضخمة التي وصلنا بعضها.
حفل هذا العصر بجمهرة كبيرة من العلماء والكتاب والشعراء الممتازين، ومنهم بعض قادة الفكر الأندلسي والفكر الإسلامي بصفة عامة. تركوا المؤلفات الكثيرة التي تحتل المكانة الرفيعة، من أمثال: ابن حزم صاحب المؤلفات الغنية. هو، كابن حيان وابن بسام وآخرين، أرّخوا لعصرهم أيضاً.
 
فقد نجم عن تعدد الحكومات والزعامات السياسية في عهد ملوك الطوائف، نزعات عميقة نحو الظهور بمظهر الفخامة والعظمة والتألّق في شتى ميادين الحضارة لما يلمسوه في ذلك من تميز لبعضهم على بعض. من أجل ذلك كانت ملوك كل مدينة تُزهى بالعلماء، وتقرّب‍هم، وإنّ أولئك الملوك كانوا مسارعين في اجتذاب العلماء إلى عواصمهم، متنافسين في تقريب النابغين منهم، حريصين على أن تضم بلاطات‍هم أكبر عدد من العلماء النابغين في شتى حقول المعرفة، بل وجدنا بعضهم يسعى جاهداً في اجتذاب ما لدى منافسيه من علماء وأدباء. وكانوا يشجّعوهم ويكرموهم. ويعتقدون أنّهم أحسن دعاية لهم؛ ولحفظ مركزهم. وبفضل المنافسة بين أولئك نَهضت الآداب والعلوم نَهضة بلغت بِها أقصى درجات ازدهارها في تاريخ الأندلس الإسلامي. واستمرت العلوم والآداب مزدهرة مثمرة في عهد ملوك الطوائف، بل هي قد نشطت عن ذي قبل. وقد امتدت هذه النَهضة الفكرية والأدبية التي ازدهرت في عصر ملوك الطوائف إلى عهد المرابطين.
 
فإنّ الظاهرة التي امتاز بِها هذا المجتمع وقلّ أن يشاركه فيها مجتمع آخر هي استمرار التقدم الحضاري حتى في أظلم عصوره السياسية وأقساها محنة، فلم يتوقف تيار الحضارة في عهد من العهود، ولم ترجع المدنية في هذه البلاد حتى أخرج العرب من ديارهم وزالت إلى الأبد دولتهم.