دور الخليفة الناصر في التطوّر العلمي في الأندلس

د. سهى بعيون

1 /5/ 2015

بلغت الأندلس أوج قوت‍ها ورخائها خلال حكم عبد الرحمن الثالث (912ـ 961م). فلم تكن في عهد من عهودها أغنى وأكثر ازدهاراً في أي وقت مما كانت عليه في عهد الناصر.

تبوأت الأندلس مكاناً عالياً في عهد الخليفة الأول عبد الرحمن الثالث حامي العلوم والآداب. فقد عمل الخليفة عبد الرحمن الناصر على تَهيئة الأجواء المناسبة لازدهار العلوم والمعارف، فعصره قد شهد حالة من الاستقرار السياسي وشيوع الأمن والسلام في المجتمع الأندلسي، فاتجه الناس إلى تحسين أحوالهم المختلفة ومتابعة مسيرت‍هم الحضارية بمختلف عناصرها ومن بينها العلوم والآداب، وكان العلماء آنذاك يرحلون للقاء بعضهم بعضاً والأخذ عن البارزين منهم علوم الدين والأدب والتاريخ وغير ذلك من العلوم، وكانت العاصمة قرطبة تمثل قطب الرحى في ذلك النشاط، ومهوى أفئدة العلماء وطلاب المعرفة. وكانت كمركز للخلافة تشهد ورود العلماء والأدباء على بلاط الخلافة، فينالون من الخليفة ووزرائه كل تكريم وتشجيع، ولهذا لا نعجب إن أُلّفت كثير من الكتب باسم الخليفة أو باسم وزير من وزرائه مما هو ملموس في حركة التأليف العلمي آنذاك.

فقد كان الناصر شغوفاً بالعلم محباً للعلماء، وهو الذي استدعى نخبة منهم. فقد شجع العلماء المشارقة القادمين إلى الأندلس وأغدق عليهم العطاء. وقد عرف الناصر بتشجيعه للعلماء والباحثين من كل ناحية من نواحي العلم وجانب من جوانب الثقافة. فقد أحسن الناصر استقبال الوافد أبي علي القالي (توفي سنة 356ه‍/967م) وجعله مؤدّباً لابنه الحكم.

ازدهرت الأندلس في عهد عبد الرحمن الثالث. وإنّ هذا العصر هو العصر الذهبي للعلوم في الأندلس. بالإضافة إلى العلماء الوافدين إلى الأندلس من المشرق، فلقد جذبت الأندلس إليها كذلك علماء الغرب، فأخذ يفد إلى الديار الأندلسية المهاجرين من الغرب.

ومن المظاهر الثقافية في عصر الناصر تأسيس جامعة قرطبة، وذلك في عام 950م. ولقد نشر الناصر في أرجاء الأندلس المدارس والمؤسسات العلمية والثقافية، واهتم بمكتبة القصر التي كانت أعظم برهان على درجة ثقافته العالية، والتي تكونت منها ومن مكتبتيّ الأميرين محمد والحكم مجموعة الكتب العظيمة التي كانت موضع فخر الحكم المستنصر وأكبر دليل على مستوى الأندلس الثقافي.

ومن اهتمامه البالغ بمصادر المعرفة، أنّه سعى إلى جمع ألوان الكتب ونفائسها، واشتهر ذلك عنه حتى بلغ ملك القسطنطينية أرمانيوس فكاتبه في سنة سبع وثلاثين وثلثمائة، وهاداه ب‍هدايا لها قدر عظيم، فكان في جملة هديته كتاب ديسقوريدس في الطب والصيدلة. وكان الكتاب مكتوباً بالإغريقي الذي هو اليوناني، وبعث معه كتاب هروسيس صاحب القصص، وهو تاريخ للروم عجيب، فيه أخبار الدهور وقصص الملوك الأول، وفوائده عظيمة، وهذا الكتاب مكتوباً باللاتيني، وقد استعانت الخلافة الأندلسية بالدولة البيزنطية من أجل ترجمة هذين الكتابين. فقد ترجم خلال هذه الفترة إلى العربية أهم كتابين.

فقد رعى الناصر حركة الترجمة، من ذلك ترجمة كتاب «تفصيل الأزمان ومصالح الأبدان»، وهو تقويم فلكي مناخي زراعي، فيه ذكرُ منازلِ القمر وما يتعلق به، ومن الثابت أنّ مؤلفه هو الأسقف رثموندو الذي عمل في خدمة الناصر وحظى بعطفه ورعايته، وعرف باسم ربيع بن زيد الأسقف.

فلم تكن عناية الخليفة الناصر بالعلوم والآداب مقتصرة على كونه محباً لذلك، بل كان هو نفسه يتمتع بقدر لا بأس به من المواهب الأدبية والشعرية. فكان الناصر ـ على علاء جانبه واستيلاء هيبته ـ يرتاح للشعر وينبسط إلى أهله، ويراجع من خاطبه به من خاصته. كما ينسب إلى الخليفة الناصر إجادته للإنشاء وكتابته النثر الجميل.

وقد تتابعت الخيرات في أيام الخليفة الناصر ودخلت الكتب الطبية من المشرق وجميع العلوم، وقامت الهمم. ويعتبر عصر الناصر أزهى عصور قرطبة في العلوم الرياضية وخاصة الطب.

فقد كان عصر الناصر عصر استقرار وأمن ورخاء،  ففيه بدأت حركة جمع الكتب وقيام المكتبات، ثم تلتها حركة النقل والترجمة وهجرة العلماء إلى الأندلس من الشرق والغرب ومن صقلية. وكانت سنة التطور وبدأ العلماء يفكرون ويدرسون وينقدون.

وبناء عليه فإنّ عصر الخليفة عبد الرحمن الناصر كان بداية مجيدة لعصر عظيم ازدهرت فيه العلوم والآداب. فإنّ الكثير من كتب العلم التي ألفت في عهده لتدل على ما اتسم به من مناخ خصب نمت فيه القدرات العلمية فأعطت ثماراً يانعة في ميدان الفكر.

فقد بلغت الأندلس أوج عزّها في عهد عبد الرحمن الناصر، بلغ الإسلام ذروة التوسع والإنجاز الثقافي.