ابن حزم الظاهري

د. سهى بعيون

1 /2/ 2014

 

هو علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الظاهري، أبو محمد، عالم الأندلس في عصره، وأحد أئمة الإسلام. ولد ابن حزم بقرطبة سنة (384ه‍/994م) ونشأ فيها، ويرجح بعض المستشرقين أنّ أصله من جهة الأم إسباني. كان من أصحاب الجاه الواسع العريض، من أسرة قال عنها الفتح بن خاقان: «بنو حزم فتية علم وأدب، وثنية مجد وحسب». كانت له ولأبيه من قبله في الوزارة وتدبير الممالك، فهو من بيت عريق بالمجد حافل بالترف والنعيم.

ولما سقطت الخلافة أخذ ابن حزم في التنقل من مدينة إلى مدينة أخرى، فقد خرج من قرطبة إلى المرية حيث مملكة خيران العامري فظل بِها زمناً وعاش هناك في هدوء، مشتغلاً بالعلم والتأليف، واختير ابن حزم نفسه وزيراً، ولكنه لم تطل وزارته، فقد دُبرت ضده مكيدة دخل على أثرها السجن، ولكن خيران أطلقه وأمره بالخروج من المرية فسار إلى بلنسية. فقد تعرض للنكبات والمصائب وأصابه الاعتقال والتغريب والإغرام الفادح، ولحقه الأذى والكيد من كل جانب ولم ينعم بالاستقرار والاطمئنان . 

نشأ ابن حزم في بداية أمره في جو ساعد على بروز مزاياه النفيسة والفكرية، فظهرت عبقريته متعددة النواحي. عاصر ابن حزم عصر الخلافة فقضى في قرطبة شبابه، وتخرّج من جامعتها وعلى أيدي أساتذت‍ها. فقد تلقى فيها العلم عن شيوخه أمثال أحمد بن الجسور، ويحيى بن مسعود، ويوسف بن عبد الله القاضي، وعبد الله بن ربيع التميمي، وأبي عمر الطلمنكي وسواهم.

انصرف ابن حزم للعلم بكل عزائمه وأخلص له ولم يخلط له مأرباً آخر. وتعمق في البحث والدرس، وهذا ما يميزه عن كثير من الذين يعنون بالعلم والأدب، ولم يقف عند هذا الحد، بل تفرغ لنشره بين الناس فنفع به خلقاً كثيراً، ذلك لأنّه كان يؤمن بأنّ للعلم زكاة هي نشره وإذاعته.

 

فقد عاش ابن حزم عصراً فياضاً بالاضطرابات والأحداث المثيرة، وشهد الكثير من أحوال هذا العصر وتقلباته، ومن تصرفات أمراء الطوائف، وهزت الأحداث مشاعره إلى الأعماق، ومن ثم كانت أقواله وأحاكمه الصادقة التي أصدرها في حق الطوائف.

 

كانت حياة ابن حزم سلسلة متصلة من النشاط السياسي ثم آلت إلى حركة علمية، يؤلف في الفنون المختلفة ويناضل عن مذهب مئات من الفقهاء والعلماء.

فلم يستقر ابن حزم في عصر ملوك الطوائف في مملكة من ممالكهم، بل كانت حياته وما التزمه من مذهب فقهي معارض للمذهب المالكي تضطره إلى التنقل والترحال بسبب ما جبل عليه من معارضة للتقليد المذهبي لفقهاء الأندلس، فلم يجد ترحيباً في بلاطات ملوك الطوائف، بل لعب الفقهاء دوراً في تشويه فكره والاستنقاص من شخصه لدى الملوك، فكره هؤلاء نزوله لديهم. بل تعدى الأمر أن أحرق المعتضد بن عبّاد أمير إشبيلية كتب ابن حزم الظاهري إرضاءً للمالكية وعلى رأسهم أبو الوليد الباجي. ولمّا أحرق المعتضد كتبه بإشبيلية قال:

فإن تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي           تضمنّه القرطاسُ، بل هو في صدري

يسير معي حيث اسْتقلّت ركائبي              وينزل إنْ أنزلْ ويُدفن في قبري

 

ولم يكن ارتحاله إلى ما ذكرنا من المدن فقط، بل ارتحل إلى البونت، ثم لجأ إلى ميورقة وهناك جرت مناظرات بينه وبين أبي الوليد الباجي. وخرج عنها إلى إشبيلية ولم يحمد مقامه في ظل بني عباد فاتجه أخيراً إلى لبله، وهناك عكف على نشر مذهبه وتأليف كتبه.

 

وكانت شهرة ابن حزم عائدة إلى اعتناقه للمذهب الظاهري. وقد كان شافعي المذهب يناضل أهل المذاهب الأخرى، ولكنه ما لبث أن انصرف عنه إلى المذهب الظاهري الذي ينسب أصلاً إلى الفقيه المشرقي داود بن علي الأصفهاني. فعمل على تنقيحه وصياغته في منهج فقهي متميز له قواعده وأصوله، ثم عمل على نشره مجتهداً في ذلك وألف فيه كثيراً من الكتب.

 

وابن حزم من المتقدمين في الظاهرية والمتحمسين لها. وقد دافع عن هذا المذهب إلى أن مات. وقد تأثّر ابن حزم إلى درجة كبيرة أيضاً بأستاذه أبي علي الفاسي.

 

وقد اتبعه كثيرون على مذهبه الظاهري، وخرجوا من مذهب مالك إليه، فكان في الأندلس خلق كثير ينتسبون إلى مذهبه، يقال لهم «الحزْمية». كما أنّ كثيرين ضاقوا به ذرعاً، وأنكروا عليه صراحته، وأعلنوا الحرب على كتبه، حتى بلغ بِهم الغيظ أن أحرقوها علناً في إشبيلية.  ومذهب ابن حزم الظاهري يعتمد فيه على قبول ما نص عليه في القرآن الكريم أو ورد فيه حديث موثوق على ظاهر معناه، إلاّ أن يكون هناك ضرورة من عقل أو حس تدعو إلى صرف المعنى عن ظاهره وإلى الأخذ بالتأويل. وقد وضع في الظاهرية تآليف قيّمة تعرّض فيها لمسائل فقهية ومشاكل دينية، وكان فيها مبتكراً إذ طبق الأصول الظاهرية على العقائد. ومن آرائه التي أودعها كتبه يتبين أنّه كان من الذين انتقضوا على التوسل بالأولياء ومذاهب الصوفية وأصحاب التنجيم.

 

وقد كان واسع الاطلاع، قوي النفس في الجدل، متعدد نواحي النبوغ، لَسِناً، كان يميل إلى المناظرة والهجوم على خصومه والذين يخالفونه في آرائه، يهاجم من خالفه، حتى يدخله في قمقم. يظن من يقرأ له علماً أنّه لا يحسن غير هذا العلم لمهارته فيه، فإذا هو كذلك يحسن كل علم تقريباً.

 

كان ابن حزم يدعو للأخذ بالعلم الصحيح والاعتماد على العقل. يتجلى ذلك في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» بشأن النجوم وأثرها في الناس.

 

ونظراً لخروج ابن حزم على المذهب الفقهي السائد في الأندلس فقد جوبه بكفاح مرير من قبل فقهاء المالكية فتألبوا عليه وتصدى له عدد منهم بالمناظرات والنقاش، فقد انتقد كثيراً من العلماء والفقهاء، ويظهر أنّه كان ضيِّق الصدر حسب مزاجه، وزاد الأمر حرجاً أن ابن حزم كان شديد الوطأة في جدله ونقاشه، حاد اللسان في مناظراته العلمية، حتى وصف لسانه بأنه وسيف الحجاج شقيقان. مما أثار عليه خصومه، فتمالأوا على بغضه، وأجمعوا على تضليله وحذروا سلاطينهم من فتنته، ونَهوا عوامهم عن الدنو منه، فأقصته الملوك وطاردته، فرحل إلى بادية لَبْلَة فتوفي فيها سنة (456ه‍/1064م).

 

كان ابن حزم عالم الأندلس الديني غير مدافع. كان حافظاً عالماً بعلوم الحديث وفقهه، مستنبطاً للأحكام من الكتاب والسنة، متفنناً في علوم جمّة عاملاً بعلمه. تعلّم ابن حزم الحديث وتبحّر فيه، فهو نابغة في الحديث، وفي علم الكلام، وفي أصول الفقه، وهو فيلسوف. كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة والشعر والسِّير والأخبار.

 

فقد لمع ابن حزم في الدين والشعر والأدب والتاريخ، وكان صاحب علم في كل فن. فقد عكف ابن حزم أكثر وقته على التأليف، فترك مؤلفات ضخمة قيّمة تدل على سعة اطلاعه وغزير علمه وعظيم أدبه، حتى قيل أنّ كتبه بلغت أربعمائة مجلد في نحو ثمانين ألف ورقة. ألّف ابن حزم في الفقه والمنطق، والفلسفة، والتاريخ واللغة والأدب، فكان ابن حزم أمّة وحده لكثرة ما ألف ولسعة علمه بالعلوم الشرعية والمذاهب والنحل.

 

ولابن حزم كتاب «الأخلاق والسير في مداواة النفوس» يظهر فيه اتجاهه الفكري الفلسفي، ويحوي ما يشبه المذكرات اليومية حول ملاحظاته المنتزعة من تجاربه ومشاهداته الشخصية وقد صاغها في تركيز ودقة فجاءت كأنّها مبادئ عامة أو حِكم بالغة.

 

وفيما يتعلق بنشاطه في ميدان الفقه وما قدم فيه من إنتاج علمي فقد ألف كثيراً من الكتب، منها كتاب في «الإجماع ومسائله» على أبواب الفقه. وصنف أيضاً كتاباً في الفقه على مذهبه واجتهاده في مجلد، ثم شرحه وأطلق عليه «المحلى» في ثمان مجلدات. وله كتاب «الإحكام في أصول الأحكام» في أصول الفقه.

ووضع ابن حزم رسالة سماها «رسالة مراتب العلوم» وهي مطبوعة في جملة رسائل له. عرض في مقدمتها إلى أنّ هدف الإنسان أن يعيش في هذه الدنيا ليثمِّر للدار الآخرة.

ومن أهم كتبه كتاب «الفِصل في الملل والأهواء والنحل»، ولابن حزم رسالة طريفة قيّمة، هي رسالة في المفاضلة بين الصحابة، شرح فيها مذهبه في المفاضلة سالكاً طريقاً منطقية محكمة. 

 

فقد كان ابن حزم أحد العقول الفذة التي لمعت في تاريخ العرب على مَرِّ العصور، فقد كان نشيط إلى أبعد حدود النشاط، وألّف في مختلف ضروب الثقافة، وأظهر امتيازاً وذكاء نادراً في كل ما ألف.

ومن أبرز إسهامات ابن حزم في التأليف التاريخي كتابه «جمهرة أنساب العرب» الذي وصف بأنّه أوسع كتب الأنساب وأشملها مع الإيجاز.

 

ويأتي ابن حزم الظاهري في مقدمة الأدباء الذين أثروا الحركة الأدبية بتآليفهم النفيسة. فكان ابن حزم إلى علمه في الفقه والكلام أديباً، قويّ العاطفة، حسن التعبير عمّا في نفسه، فأكبر أثر أدبي له في النثر كتابه الرائع «طوق الحمامة في الألفة والألاّف»، هو كتاب ترجم فيه لنفسه، ودوّن خلجات‍ها، مما يدلّ على أنّه حييّ النفس، دقيق الحس. وكتاب «طوق الحمامة» رسالة في الحب والمحبين مؤلفة من ثلاثين فصلاً يدور كلّ منها حول موضوع واحد من موضوعات الحب. ويعتبر هذا الكتاب وهو أول تصانيف ابن حزم أدق ما كتب العرب في دراسة الحب وتعدد أسبابه، وتنوع مظاهره وتطوراته. وفي هذا الكتاب يحلل طبيعة المرأة، ويبوّب عواطف المحبين تبويباً منظماً متماسكاً.

 

والجميل فيه أنّ مؤلف هذا الكتاب فقيه، وكان من المفروض أن يحجم عن الخوض في مثل هذا الحديث الذي لم يتعوّد الفُقهاء الخوض فيه؛ ولكن طبيعة ابن حزم ونشأته من جانب، وظروف عصره من جانب آخر، قد جعلته يسطر هذا الكتاب الذي يفخر به الأدب الأندلسي. وإنّ ابن حزم، من أعظم العقول في الأندلس، كان له تأثير باق على آداب الغرب.

 

فلم تعرف الأندلس كابن حزم العالم والفيلسوف والمؤرخ والوزير عالماً ثقة مُثْمِر الدراسة والجدل، ومؤلفاً في مختلف نواحي الفكر البشري من الفقه والحديث والأصول إلى المنطق والفلسفة والكلام، إلى تاريخ الديانات في عقائدها وبدعها، إلى التاريخ والأدب والشعر والخطابة والأنساب في أسلوب بليغ رصين.

 

فقد  كان ابن حزم من العلماء الموسوعيين، وقد أسهم إسهاماً فعالاً في ازدهار كثير من العلوم  وألّف في مختلف ضروب الثقافة، وأثرى المكتبة الإسلامية بنفائس الكتب وروائع المؤلفات.