روح التسامح والتعايش من قِبَل الحكام المسلمين للنصارى في الأندلس

 د. سهى بعيون

1 /6/ 2013

منذ بدايات الفتح العربي للأندلس اتسمت معاملة المسلمين لغيرهم من أهل البلاد المفتوحة بالتسامح التام الذي أشاد به غير المسلمين وكثير من المؤرخين الأوربيين. تدلّنا على ذلك الأفواج التي دخلت الدين الإسلامي تباعاً برضاً واختيار. والحقيقة أنّ المسلمين الأوّلين كانوا يجرون على تسامح كريم صادر عن إدراك فطري أنّ هذه السياسة المثلى لاجتذاب الناس إلى الإسلام وإقناعهم بعدالة الدولة الإسلامية. لنرى مظاهر التسامح، وماذا أدّت هذه السياسة من نتائج.

1ـ بقاء الكنائس والحرية في إقامة الشعائر الدينية

 نلمس سياسة التسامح لهذه الأقليات في احترام الحكّام المسلمين للنصارى وغيرهم في المعاملات والمجاملات. ومن الواضح أنّ الحكّام لم يحاولوا إرغام الناس على دخول الإسلام، لأن هذا كان أسلوب العرب الذي جروا عليه في نشر الإسلام في كل بلد دخلوه. فلم يتدخّل الحكّام في شيء من عقائدهم، وتُرك لهم يعيشون عيشتهم. فيتمثل مظهر التسامح في بقاء اليهود والنصارى على دينهم آمنين مسرورين متمتعين بأقصى ما يمكن أن يحملوا به من الحقوق العامة لو كانوا مقيمين في مجتمع خاضع إلى مثل دينهم.

فقد بقي بعضهم على دينه القديم وعاشوا بين المسلمين، حيث وجدوا كل ما يأملون من حرية وتسامح يفوق ما نجده في أي مجتمع معاصر اليوم، ولقد تبنّى غير المسلمين ـ نتيجة لهذه السياسة ـ العادات الإسلامية واللغة العربية. ولما هاجر بعض المسيحيين إلى فرنسا ليعيشوا في ظلال حكم مسيحي لم يصيروا أحسن حالاً من إخوانِهم النصارى بالأندلس.

 كانت معاملة المسلمين لسكان الأندلس الأصليين معاملة كريمة بأن أبقوا عليهم كنائسهم وأديرتِهم، ثم كفلت لهم الدولة حرية العقيدة، وحرية تأدية الطقوس والشعائر الدينية. وكانوا يسمحون لأساقفتهم أن يَعْقِدوا مؤتمراتِهم الدينية، كمؤتمر أشْبيليَّة النصراني الذي عُقِد في سنة 782م، ومؤتمر قرطبة النصراني الذي عُقِد في سنة 852م.فكان لهذا أثر عميق في نفوسهم.

فلم تكن حال النصارى في ظل المسلمين شديدة الوطأة إذا هي قورنت بما كانوا عليه من قبل، زد على ذلك أنّ العرب كانوا شديدي التسامح فلم يضيقوا الخناق قط على أحد ما في الناحية الدينية. ولم يجحد النصارى جميلها هذا، فكانوا راضين عنها لتسامحها واعتدالها، وآثروا حكمها على حكم القبائل الجرمانية والفرنجة، فانعدمت الثورات أو كادت طوال القرن الثامن للميلاد.

إن خير ما يمثل ذلك المجتمع السكني الخالي من الحدود بين الأقليات هو بقاء الكنائس داخل أسوار المدينة، بل في مركزها أيضاً، كما تشهد على ذلك كنيسة الملك المجاورة للمسجد الجامع في مدينة طليطلة.

ولقد كان حول قرطبة وحدها في فترة ما من أيام الحكم الإسلامي في الأندلس أكثر من خمسة عشر ديراً. فقد أبقى المسلمون جميع أماكن العبادة لغيرهم التي كانت قبل مجيئهم، ولم يُهدم منها إلاّ ما كان في المناطق التي دخل كافة أهلها في الإسلام. بل سمحوا لهم ببناء كنائس جديدة وما يريدون من الأديرة، وكانوا يقرعون نواميسهم. وتُعدُّ كنائس النصارى الكثيرة التي بَنَوْها أيام الحكم العربي من الأدلّة على احترام العرب لمعتقدات الأمم التي خضعت لسلطانِهم.

لقد تجمعت جاليات المستعربين في الأندلس، حول الكنائس وانضوت تحت إدارة أسقف  لغرض مزاولة حيات‍ها الدينية، وكانت في طليطلة إبان الحكم الإسلامي ست أبرشيات، في أقل تقدير، داخل أسوار المدينة، وأخريات مثلها بقرطبة في القرن التاسع الميلادي.

فكان لنصارى قرطبة أكثر من كنيسة يؤدون فيها شعائر دينهم كما كان لهم في ظاهرها أديرة من أهمها دير أرملاط على طريق طليطلة، وكانت الأديرة والكنائس مما يروق للشعراء ارتيادها.

ظل النصارى أحراراً في إقامة شعائرهم الدينية، وبنوا عدّة أديرة جديدة، ولم تكن المناصب المسيحية الدينية سبباً في حرمان بعض المسيحيين من مناصبهم المدنية والاستعاضة عنهم بالمسلمين.

 تقاضي النصارى بقانونِهم وتنظيمهم أنفسهم

لما أزال العرب أمر القوط أقاموا على أهل الذمة والنصارى رئيساً منهم ولقبوه بقومس الأندلس أو زعيم نصارى الذمة. وهو لقب كبير كان مقصوراً مثل ذلك على القوط. فصار القمامسة من أهل البلاد، فكأنّ الفتح الإسلامي ردّ إليهم اعتبارهم من هذه الناحية.

 فكان القومس comes يدير أمور الجماعات المسيحية الكبيرة في المدن والأرياف، وقد جعل العرب القومس مسؤولاً أمامهم عن كل ما يتصل برعاياهم من النصارى، وأحاطوه بما يليق به من الاحترام. وكان أول القمامسة هو أرطباس. حقيقة أنّ هذا اللقب لم يظهر في النصوص إلا أيام عبد الرحمن الداخل، ولكن صورة الخبر الذي يتضمن هذا اللقب عند ابن القوطية تدل على أنّ الوظيفة كانت قديمة والجديد هو اللقب. وستستمرّ الوظيفة بِهذا اللقب بعد ذلك.

 كما ترك الحكّام نصارى الأندلس أحراراً ينظمون أمورهم على النحو الذي أرادوه، فظلّوا يفصلون في أقضيتهم وفقاً للقانون القوطي القديم، وهو نظام مدني وإداري أيضاً، أي أنّ القائمين بأمره كانوا مسؤولين عن كل ما يتّصل بأمور رعاياهم فيما بين أنفسهم، كانوا يجمعون ضرائبهم ويؤدون‍ها إلى بيت المال نيابة عنهم، فكان لهم قاض يعرف بقاضي النصارى أو العجم، يفصل فيما بينهم من منازعات بمقتضى القانون القوطي، وظلّت علاقات‍هم بكنائسهم وقساوستهم على ما كانت عليه قبل الفتح. فكانوا يشرفون على كنائسهم ويتولّون أمور قساوستها، أي أنّه وجد من أول الأمر نظامان إداريان جنباً إلى جنب: واحد للمسلمين وواحد للنصارى. أما في القضايا التي تقع بين المسلمين وغير المسلمين، فكان ينظر فيها قضاة المسلمين ويحكمون فيها بشريعة الإسلام.

وكانت كل تلك المناصب تعيّن من قبل أمير الأندلس، ومن قبل الخليفة فيما بعد، باقتراح من النصارى القاطنين في الأقاليم المسلمة، وكانت تلك المناصب مناصب رفيعة المستوى تسنمها نصارى منحدرون عن طبقة النبلاء القوطية القديمة، وكان لهم الحق في حضور الاحتفالات في قصر الأمير، كما شكلوا جزءاً من مجلسه.

ثمة حقيقة مهمة تمكننا من تحليل ديمومة أقليات المستعربين في الأندلس، ودرجة التعايش المختلط فيها هي الصفة السياسية التي منحها الحكام المسلمون إلى المستعربين والتي استطاع

هؤلاء بفضلها الاحتفاظ بقوانينهم القوطية الغربية (El Fuero Juzgo) في المجال المدني، وبشرائع وطقوس الكنيسة الهسبانية القديمة في المجال المدني، كما تمتعت جاليات‍هم بحكم ذاتي كامل دون أن يتصادم ذلك مع القضاء الإسلامي.

فقد أمّن الحكّام المسلمون من بقي على دينه من مسيحيين كانوا أم يهوداً على أرواحهم وأملاكهم ومنحوهم حرية العقيدة وإقامة الشعائر الدينية، كما تُركت للنصارى الحرية الواسعة في قضائهم الخاص، وتنظيم أنفسهم. وكانوا يعانون الخسف والظلم الاجتماعي ويصادرون في حرياتِهم ومعتقداتِهم وأموالهم. ونتيجة لهذه السياسة الحكيمة ساد الاستقرار ربوع هذه البلاد وانتشر العدل.

وشعر الأسبان بالفرق بين حكم العرب وحكم القوط، ورأوا من تسامح العرب وتفانيهم في نشر العدل بين الناس ما يثلج له الفؤاد. فأحب الأسبان العرب محبة خالصة ورأوا البون الشاسع بين الحضارة التي يحملها المسلمون، وما كان للقوط من الثقافة المتأخرة، وكانت أقرب إلى الهمجيّة. ولم يمض قرن حتى أخضعت القرى وكثرت المزارع، واتصل العمران، وتزاحم الناس على سكنى المدن، وأمست قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية كعواصم أوروبا اليوم، وأصبحت عاصمة علم وصناعة وفن وتجارة.

واتخذ هؤلاء المسيحيون أو أكثرهم (وكذلك اليهود) العربية لغة لهم وأتقنوها وجعلوا يكتبون بِها خيراً مما يفعلون مع لغتهم اللاتينية، وكانوا يتحدثون بالعربية في المحافل العامة غالباً. كما أنّهم اتخذوا العادات الإسلامية ومارسوا أفكار المسلمين وتقاليدهم في ملابِسهم ومطاعمهم ومشاربِهم وحتى في أسمائهم، أي أنّه حصل شيئاً فشيئاً تمثل في المظهر الخارجي، وفي اللغة أيضاً. ولذلك نجد في النصف الأول من القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي قد انتشرت بين الأسبان النصارى، الذين سُموا ب‍ ((المُسْتَعْربين))، اللغة العربية والعادات الإسلامية انتشاراً واسعاً وعميقاً، ودرسوا العلوم الإسلامية، ونبغ منهم أدباء وعلماء ومنهم من وصل إلى أعلى مناصب الدولة.

وإنّ قسماً كبيراً من الأهالي دخل الإسلام واندرج في عداد أسر المولّدين الكبيرة في بلاد الأندلس. وهذه الطبقات من المولّدين والمستعربين هم الذين اندمجوا في هذه الحضارة واشتغلوا بالعلوم.

 فإنّ استمرار وجود هذه الأقلية المسيحية وسط المجتمع الإسلامي يدلّ على الطابع التعدّدي لهذا المجتمع دينياً واجتماعياً. وإنّ هذه التعددية دليل على تسامح الإسلام وقدرته على تمثل الديانات المختلفة وإعادة إفرازها في مشروع حضاري هو الثقافة الأندلسية الإسلامية.