اهتمام الأندلسيين بعلم الفقه

د. سهى بعيون

1/ 1/ 2015

 كان علم الفقه من أول ما اشتغل به الأندلسيون، والحق أنّ الفقه احتل لدى الأندلسيين مكانة عالية، ومنزلة سامية، وكان عالم الفقه يحظى منهم بكل تقدير وإجلال.

ولعل من عوامل ازدهار الدراسات الفقهية وإقبال كثير من الطلاب على دراسة الفقه وتعلم مسائله ما كانوا يأملونه من تولّي الوظائف العامة الدينية والمدنية، فقد كانت وظائف المشاورين والقضاة والمحتسبين وخطباء المساجد وغيرها وقفاً على الفقهاء تقريباً.

وقد تسنى للكثير من الفقهاء أن يتوصلوا إلى مناصب رفيعة في الدولة كميدان الفتيا والحسبة والشرطة وغيرها من الميادين الهامة.

 ونشطت حركة الدراسات الفقهية في الأندلس فظهر آلاف الفقهاء ومن بينهم عدد لا يقلون بحال عن كبار فقهاء المشرق، ويتضح لنا ذلك إذا علمنا إنّه كان بقرطبة وحدها ثلاثة آلاف مقلّس، وكان لا يتقلس عندهم في ذلك الزمان إلاّ من صلح للفتيا.

وانصرف الكثير من طلاب العلم إلى دراسة الفقه ومعرفة مسائله. فكانت الجوامع المنتشرة في الأندلس تحفل بحلقات العلم والمناظرات العلمية في هذا الميدان العلمي.

اعتنق الأندلسيون في البدء مذهب الإمام عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي (ت 157ه‍/ 774م) إمام الشام، وذلك بفعل الوجود الشامي القوي في الأندلس قبل أن يُدخل طالبو العلم الأندلسيون إليها تعاليم مالك بن أنس (ت 179ه‍/ 795م).

وكان الإمام الأوزاعي من المجاهدين المرابطين في مدينة بيروت ضد البيزنطيين. ولهذا اهتم مذهبه بالتشريعات الحربية وأحكام الحرب والجهاد. وهذه التشريعات كانت تناسب وضع الأندلسيين في الفترة الأولى من حياتِهم القائمة على الحرب والجهاد. إضافة إلى أنّه من الطبيعي أن ينقل أمراء بني أميّة المذهب الديني الذي أقاموا عليه أحكامهم في بلادهم الأصلية. ولهذا اعتنقوا في الأندلس مذهب الإمام الأوزاعي الذي كان في الوقت نفسه مذهب أهل الشام. فقد كانت الأندلس في الفترة الأولى متأثرة بالحياة الدينية السائدة في الشام.

انتشر المذهب المالكي في الأندلس وحلّ محل مذهب الإمام الأوزاعي. وكان العامل الجغرافي ذا أهمية حاسمة في دخول المالكية وانتشارها. فخلال سفرات‍هم في طلب العلم، أو للحج، خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين/ الثامن والتاسع الميلاديين كان الأندلسيون يتلقون العلم في أماكن سبق وانتشر فيها المذهب المالكي كإفريقية ومصر. كما كان كثير منهم يذهب إلى المدينة المنورة. وفي المقابل، قلما كانوا يذهبون إلى العراق حيث كان مذهب أبي حنيفة سائداً.

 وقد ساعد الفقهاء الأندلسيون على نقل مذهبه إلى الأندلس بعد أن قاموا بزيارات علمية إلى المدينة وبلدان المشرق الإسلامي. وقد نقل هؤلاء بعد عودت‍هم فضل مالك وسعة علمه وجلال قدره. فكان للرحلات العلمية التي قام بِها الأندلسيون في فجر الحضارة الأندلسية أثر بالغ في نقل المذهب المالكي إلى الأندلس.

 وأخذ المذهب المالكي بعد ذلك ينتشر على أيدي فقهاء وأتباع الإمام مالك من أهل الأندلس.

هذا وقد حلّ المذهب المالكي محل مذهب الإمام الأوزاعي باستثناء بعض المسائل التي تمسّك بِها الأندلسيون.

ولقد أقبل الأندلسيون على موطأ مالك يشرحونه ويفصلون معانيه، فكان من ذلك كتاب أبي إسحاق إبراهيم بن مزين في تفسيره، وكثرت التآليف بعد ذلك في المذهب، فألّف القاضي محمد بن يحيى بن عمر بن لبابة كتاب «المنتخب» الذي جمع فيه روايات المذهب وشرح مستغلقها وفرع وجوهها، ومن الكتب المعتمدة عند المالكية كتاب «التهذيب» للبراذعي.

ساد المذهب المالكي في الأندلس، وعمّ جميع أقطارها وشاع في جميع حلقات العلم وألوان الدراسات الفقهية، إلاّ أنّ ذلك لم يمنع  دخول بعض المذاهب الفقهية الأخرى إلى الأندلس، ولكنها لم تكن من القوة بحيث تجاري المذهب المالكي أو تنافسه على مكانته.

انتقل إلى الأندلس أيضاً مذهب الإمام محمد بن إدريس الشافعي، أدخله إلى الأندلس قاسم ابن محمد بن سيار من أهل قرطبة. رحل إلى المشرق أواسط القرن الثالث الهجري، ودرس على كبار شيوخ الشافعية فلما عاد إلى بلاد الأندلس أنكر على فقهائه تقليدهم الأعمى لما كان عليه شيوخهم، وانصرف إلى نشر مذهب الشافعي بين أهل بلده عن الطريق التدريس والتأليف، وتكونت حوله طائفة من التلاميذ، ومدّ عليه الأمير محمد ظل رعايته، وعهد إليه في تحرير وثائقه وشروطه، وقد ظل في هذا المنصب إلى وفاته سنة 276ه‍/ 890 أو 891م.

وبين ن‍هاية القرن الثالث الهجري / التاسع للميلادي والنصف الأول من القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، كان للشافعية وزن معتبر في أوساط المثقفين، إلاّ أنّهم لم يتمكنوا من تثبيت مذهبهم أو الحلول محل المالكية. فلم يقدر لهذا المذهب الانتشار كثيراً بسبب معارضة المالكية وبعض الأمراء لأحكامه.

كما انتقل إلى الأندلس المذهب الحنفي ويمثله بعض الفقهاء كعيسى بن محمد بن هارون النسفي. ومثله الفقيه عبد الرحمن بن محمد بن خالد الرّقّي.  

وظهرت من جهة أخرى في الأندلس مؤثرات مشرقية دينية أخرى، فقد دخلت بعض المذاهب الفقهية الأخرى إلى الأندلس، فكان هناك فقهاء يتبعون مذاهب أخرى، كالمذهب الظاهري.

وكان أول من نشر مبادئ أهل مذهب الظاهر في الأندلس عبد الله بن محمد بن قاسم بن هلال (المتوفى سنة 272ه‍/ 885-886م). وكان من أوائل الظاهريين عامة، إذ إنّ المذهب ظهر في منتصف القرن الثالث الهجري.

وقد توقف انتشار المذهب الظاهري أيام المنصور. وفي مقدمة هؤلاء العلامة الفيلسوف أبو محمد علي بن حزم (ت 456ه‍/ 1064م)، وقد عاش ابن حزم عصر انحلال الخلافة الأندلسية وقيام دول الطوائف. وكان آية عصره في نضوج المذهب ودقة البحث وعمق التفكير.

وكان للنساء دور في نشاط علم الفقه، فقد أمدتنا كتب التراجم بعدد من أسماء الفقيهات اللاتي أسهمن في ازدهار الفقه وتعليمه لبنات جنسهن. ومن النساء الفقيهات في عهد الخلافة راضية مولاة عبد الرحمن بن محمد الناصر، وفاطمة بنت يحيى بن يوسف المُغامي.