التواصل الثقافي بين الأندلس والمشرق

د. سهى بعيون

1 /4/ 2013

 

 

المعني بالتواصل الثقافي هو تبادل الثقافات، الاتصال ببعضها البعض تحاورا و تعارفاً وتلاقحاً. ويعد التواصل الثقافي بين الشعوب من الظواهر الإيجابية الهامة التي كان لها دور كبير وهام في تطور الفكر الإنساني وتقدّم الحضارة والثقافة العالمية. وهو يمثل التأثر والتأثير بين الحضارات.

وعندما نتحدث عن التواصل الثقافي عبر التاريخ، فإننا لن نجد مثالا أروع من الحضارة الإسلامية في الأندلس. فقد لعبت الأندلس كجسر للتواصل بين الثقافتين العربية و الغربية. وهي تُمثّل التقاء الحضارات بين الشرق والغرب، والتأثّر والتأثير في الحضارات.

وأدّى هذا التواصل الثقافي إلى ولادةِ وتبَلْور الحضارة الأندلسية. كانت طبيعة الحضارة الأندلسية أشبه ببوتقة انصهرت فيها عقليات شتى وثمرات ثقافات متباينة.

فكان من أثر التواصل الثقافي أن ازدهرت الحياة العلمية في الأندلس، فازداد النشاط العلمي بصورة سريعة ومتنامية.

 

لقد بدأت الأندلس تتصل بالمشرق، وبدأت علوم وآداب المشرق تحمل إلى المغرب عن طريق من وفد من المشرق إلى الأندلس من العلماء والمفكرين، وعن طريق رحلات طلب العلم يقوم بِها عدد من أهالي الأندلس إلى مراكز الإشعاع العلمي في مصر والحجاز والشام والعراق. وتحفل كتب الطبقات والتراجم بأسماء العديد من علماء الأندلس الذين رحلوا إلى المشرق طلباً للعلم ورغبة في الاتصال بعلماء المشرق الإسلامي.

 

ويجد القارئ في نفح الطيب ثبتاً طويلاً بأسماء من رحلوا من الأندلس إلى الشرق للتزود بالعلم.

ففي ميدان العلوم البحتة رحل إلى المشرق العلامة الرياضي عمرو بن عبد الرحمن الكَرْماني القرطبي حيث قصد حران فدرس بِها الهندسة والطب، وجلب معه إلى الأندلس رسائل إخوان الصفا.

ويعتبر نقل الكرماني لرسائل إخوان الصفا إلى الأندلس خطوة عظيمة في دفع تيار الدراسات الفلسفية في الأندلس، وتوسيع دائرة البحث فيها.

 

وجدير بالذكر أن نشير إلى أنّه إلى جانب ارتحال الأندلسيين إلى المشرق فقد شهدت الأندلس أيضاً موجة معاكسة من ارتحال المشارقة إلى الأندلس. فكان يُدعى قوم من المشرق إلى الأندلس فيملأوها أدباً ولغة. وقد عقد المقري فصلاً في كتابه نفح الطيب لمن دخل الأندلس من أهل المشرق.

قدم الأندلس عدد من العلماء، وكان هؤلاء العلماء يرمون من وراء ارتحالهم إلى الأندلس نيل ما يطمحون إليه من منازل رفيعة في بلاطات الملوك.

 

كان هناك تيار علمي زاخر بين المشرق والأندلس، ويتمثل هذا في أفواج العلماء الذاهبة والآيبة بين القطرين، حتى شُبه نشاطهم ذلك بحركة سير النمل في الذهاب والإياب. ولذلك نجد في تراجم كثير من العلماء الرحْلة من هنا إلى هناك، وبالعكس. فكانت المملكة الإسلامية بالنسبة للعلماء والرحَّالين كرقعة شطرنج، يذهبون فيها ويجيئون.

 

فكانت البلاد الإسلامية وحدة ثقافية واحدة رغم التجزئة السياسية التي أصابتها وجعلت منها عدداً كبيراً من الدويلات الهزيلة المنقسمة، وكانت الأفكار والكتب والبضائع والأشخاص تنتقل بحرية تامة، والأغلب أنّ انتقال الكتب كان يتم من الشرق إلى الغرب أي إلى الأندلس حيث أن الشرق كان ـ في عصوره الأولى على الأقل ـ متقدماً على الأندلس في التأليف.

 

فلم تكن هناك حدود ولا سدود تفصل أرض المسلمين وإن تشعبت إلى ممالك متفرق بعضها عن بعض، بل كانت الرحلة دائمة والأسباب موصولة، فلم يكن الفكر في المشرق بمعزل عن نظيره في المغرب والأندلس، ومن ثم كان التفاعل قائماً والعطاء متصلاً.

 

هذا ومن الحق أن نقول: إنه كان للتواصل الثقافي بين المشرق والأندلس أثر كبير في ازدهار الحركة العلمية وتنشيطها، فقد كان أولئك العلماء الراحلين إلى المشرق أو المشارقة الراحلون إلى الأندلس يحملون معهم كثيراً من العلوم والمعارف المختلفة إلى جانب أعداد كبيرة من المصنفات والتآليف في شتى فروع المعرفة، وكان لهذا اللون من النشاط العلمي ثمرتان مباركتان، هما ما يحمله العالم في صدره من علم ومعرفة، وما ينقله معه إلى الأندلس من كتب قيّمة. فأخذ الأندلسيون في تلقي تلك العلوم من أفواه العلماء ومن بطون الكتب الواردة عليهم فازداد النشاط العلمي بصورة سريعة ومتنامية.

 

اشتغل الأندلسيون بكتب المشارقة دراسة وشرحاً ومعارضة وردّاً واختصاراً، إلى جانب ما ألفوه في شتى العلوم من فقه ولغة ونحو ومعجمات وتاريخ وحديث وكتب في التراجم والدراسات الأدبية.

 

وقد تألق بعض العلماء الأندلسيين وأبدعوا فصنفوا بأنفسهم مصنفات قيّمة ومنها عدد لا بأس به في نقد بعض الإنتاج العلمي للمشارقة، وهي ظاهرة تدل على نمو الشخصية العلمية الأندلسية وتحقيق ذات‍ها. وإنّ الرحلات العلمية لم تنقطع بين علماء المشرق وعلماء الأندلس، وإليها يعود الفضل في اتساع التبادل الفكري بين المشرق والأندلس.

 

فقد كان للتواصل الثقافي بين المشرق والأندلس أثر كبير في ازدهار الحركة العلمية وتنشيطها. ومن أثر ذلك توسّع الثقافة بين الشعب الأندلسي، وانتشر العلم في الأندلس، وتألّق بعض العلماء الأندلسيين، وتصنيفهم مصنفات قيّمة. فقد جنت الحضارة الأندلسية ثمار ذلك التواصل على نطاق واسع. انعكس هذا التواصل على النضج العلمي واكتمال نمو الشخصية العلمية للأندلس، وكوّن علماء نابغين.

 

ولا شك بعد ذلك في أنّ الأندلس بلغت ما أرادته لنفسها من الازدهار والتفوق وبناء صرح متميّز له طابعه الخاص الذي يستمد معالمه وخطوطه من الروح الأندلسية الخاصة.