الإمام عبد الرحمن الأوزاعي

ليس هنالك من شخصية أحبّها البيروتيون ـ بكافة طوائفهم ـ كما أحبّوا الإمام الأوزاعي، الذي يُذكر الورع والتقوى إن ذُكر.

الإمام عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد الأَوزاعي ( 88-157هـ / 707-774م ) من مواليد بعلبك، وهي مدينة كان لها في العصور السالفة شأن عظيم.

 

وكان الإمام الأوزاعي طفلاً لما توفي والده، فنشأ يتيماً، فكفلته أمّه، وتعهدته بالتعليم لما لاحظت فيه من مخايل النجابة والذكاء والشغف بالمعرفة. أمّا نشأته الأولى فما ذكرت المصادر التاريخية عنها إلاّ أنّه انفق سني حداثته في في البقاع في قرية الكرك البقاعيّة حيث ابتدأ درسه، ولما بلغ أشدّه انتقل إلى دمشق، وهناك مكث ردحاً من الزمن يتلقّى على أيدي نفر من جلة العلماء العلوم العربية والإسلامية المختلفة، ومن دمشق شد الرحال إلى اليمن، وما طال به المقام، فعاد إلى الحجاز، ورحل إلى البصرة، وأدرك بعض السادة من التابعين وأخذ ما عندهم من علم الوقائع، ثم آب إلى دمشق، فسكن محلة الأوزاع، خارج باب الفراديس، فشاع منذ ذلك الحين ذكره، وانتقل إلى بيروت تشيعه شهرة العالم الفذ حيث استقر وذلك على الأرجح سنة 133 ھ.

 

وهكذا انتهت الفترة الأولى من حياة الإمام الأوزاعي، وبدأ مرحلة جديدة قضاها في الفتيا والتدريس والوعظ والإرشاد، فقصد إليه الطلاب والأتباع من كل مكان، وجعل مجلس علمه في زاوية من الجهة الجنوبية من (سوق الطويلة). ومن الأهميّة بمكان القول أنّ الإمام الأوزاعي عاش في عهدين سياسيين هامين، وقد شهد وعاش في العهدين الأموي والعبّاسي.

 

وكان الإمام الأَوزاعي مؤمناً أشد الإيمان بالقاعدة الإسلاميّة (الرحلة في طلب العلم)، لذا تنقّل في مدن الشام وفي اليمامة والبصرة والمدينة المنورة وبيت المقدس، وحج أكثر من مرة، لذلك فقد تعمّق الإمام في العلوم الدينيّة والشرعيّة بشكل لافت للنظر، وبات مفتيّاً من أهم مفتي الإسلام.

 

كان الإمام الأَوزاعي (رضي الله عنه) مرابطاً وعالماً وفقيهاً ، وكان صاحب عبادة وخشوع، عظيم الإحترام للعلم وأهله. أصبح الإمام الأوزاعي من أئمة الفقهاء، له مذهب خاص معروف، لا يقلّ منزلة عن المذاهب الفقهيّة الأخرى. ذاع صيته في كل أنحاء العالم الإسلامي. تأثرت به مناطق عديدة من الولايات العربيّة والإسلاميّة نظراً لتنوّع رحلاته وتلامذته. فقد انتشر مذهبه في بلاد الشام حوالي 220 سنة دون انقطاع، كما انتشر لمدة أربعين سنة بعد وفاته في بلاد المغرب والأندلس.

 

لُقّب الأوزاعي بإمام الشام، وكانت سيرته حافلة بالأعمال المجيدة، والتعاليم الفاضلة، وقد دلّت على علو منزلته العلميّة، وقوة شخصيته، التي أكسبته لدى العلماء والخلفاء والولاة والناس جميعاً هالة من الاحترام والوفاء.

 

كان الإمام الأوزاعي من كبار الأئمة المدافعين عن الإسلام والسُّنة المطّهرة، وكان بليغاً، جريئاً، قوي الشخصية، صالحاً تقيّاً يتمسك بالحق. وكان يشير على الخلفاء والولاة بالتقرب من الرعيّة، وبلزوم معاملتهم بالعدل والمساواة، وعدم ظلمهم والعدوان عليهم سواء أكانوا من المسلمين أم من أهل الذمة.

 

توفي الإمام الأَوزاعي يوم الأحد في 2 صفر من عام 157هـ. وكان في التاسعة والستين من عمره في خلافة أبي جعفر المنصور.

 

عُدَّ الأوزاعيّ في طليعة المفكرين اللبنانيين في عصره، وقدَّره معاصروه، وشهدوا له بالمنزلة الرفيعة. والذين كتبوا عن الإمام الأوزاعي أو درسوه لم يكونوا من البيروتيين أو اللبنانيين فقط، بل إنّ أبناء الأقطار العربية والمستشرقين الأجانب ساهموا بالكتابة عنه ودراسته.

ويبقى الإمام الأوزاعي من أشهر الأئمة، ومن أحبّ الأئمّة إلى قلوب الناس، يعيش في مخيّلتهم عالماً زاهداً، فقيهاً محدّثاً، أنكر ذاته وعاش للدين وللعلم وللناس.

 

د. سهى بعيون