عدل عمر بن الخطّاب رضي الله عنه واهتمامه برعيّته

كان الرسول صلى الله عليه وسلم على صِلة بالله سبحانه وتعالى عن طريق الوحي، وكان الوحي يمدّه بحلول لمشكلات المجتمع، فلَمّا انقطع الوحي بوفاته، اجتهد كلّ من الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في حدود المبادئ الإسلاميّة والقرآن الكريم والحديث الشريف، والفهم الكامل لروح الإسلام وتعاليمه، فاستطاعا أنْ يحصلا على حلول موفّقة لِمَا صادفهما من مشكلات. وكان عمر في ذلك الباب نسيج وحده، لأنّ المجتمع الإسلامي اتّسع في عهده، وكَثُرت مطالبه، وبرزتْ فيه حالات لم تظهر في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر.
 
وضع عمر رضي الله عنه بعدله الموروث الكثير من مبادئ التشريع القضائي والاجتماعي الذي لم يحد عن مبادئ الشريعة قيد أنملة. كان عمر رضي الله عنه شديداً في الحق، كان قبل أن يسلم أشدّ القرشيين خطراً على المسلمين، فلمّا أسلم أصبح أشدّ المسلمين مجاهرة برأيه، ودفاعاً عن هذا الدين. بجانب شدّته وقسوته في الحقّ، كانت رحمته ولينه وعدله في الحق أيضاً. وقد برزت هذه الصفات فيه عندما آل إليه الأمر وأصبح مسؤولاً عن الرحمة والعدل، وملجأ الحنان للمعوز والمظلوم، ومصدر الحزم للظالم والجائر.
 
والعدل هو جماع الفضائل، وكانت نفس عمر خصبة للعدل بالوراثة، وجاء الإسلام ليتعهّد هذه النفس ويهذّب‍ها، حتى يصل بِها إلى قمّة العدل البشري، ولقد ساعدت صفة العدل هذه عمر في نجاحه الخارق في إدارة الدولة الإسلامية في عهده. ونقول عدله الموروث لأنّه ورث القضاء من قبيلته وآبائه أبناء عدي ـ أخو مرّة ـ الذين تولوا السفارة في الجاهلية والتحكيم. والسفارة كانت من الوظائف الكبرى في حكومة قريش، وكانت قريش تبعث صاحبها لمفاوضة أعدائها عندما يختلفون على أمر، وآخر من تولى منصب السفارة في الجاهلية عمر رضي الله عنه.
كذلك اجتمعت فيه ـ رضي الله عنه ـ عناصر الوراثة الشعبية، والقوة الفردية وتجارب الكفاح، وعبر الأحداث والأيام، وعقيدة الدين في صفة العدل التي أوشكت أن تستولي فيه على جميع الصفات.
اشتهر عمر بعدله بين الناس، وعرف أبو بكر تفانيه في إقامة العدل فكان دائماً يستشيره في كثير من القضايا.
 
وقد بلغ من عدل عمر أنّه كان يحرص كل الحرص على دفع أعطيات المسلمين إليهم في مواعيدها لا فرق بين عامّة وخاصّة. وقد أثر عنه أنّه كان يقول: ((والله لئن بقيتُ ليأتيّن الراعي بجبل صنعاء حظه من هذا المال (يعني أموال الفيء) وهو في مكانه)).
 
فهو العادل الذي جعل الله الحق على لسانه وقلبه، وهو العادل الذي حكم بالحق وبما أنزل الله وأظل عدله الجميع، فلم يميّز مرة واحدة بين قريب أو غريب، أو بين عربي وأعجمي، أو بين أمير وعبد، أو بين سيد ومخدوم، أو بين غني وفقير، أو بين والي ورعية، فكلهم في حكم الله وإدارته سواسية كأسنان المشط.
 
كان عمر رضي الله عنه عادلاً في جميع أحكامه عادلاً على وتيرة واحدة لا تفاوت بينها. كما كان لا يعفي أي إنسان مهما كانت منزلته مما يستحقّه من العقوبة؛ وكانت لا تؤثّر في تصرفاته عواطفه الخاصة ونزعات قلبه. فكان شديداً في إقامة الحدود يقيمها على أقرب الناس إليه، فقد عاقب ابن عمرو بن العاص عامل مصر، لأنّ أحد قبطها استعداه عليه. ولقد سوّى عمر بين أبنائه وسائر المسلمين، فبلغ بذلك مبلغ البطولة في هذه الصفة النادرة بين الحكام.
فهو يسوّي بين الناس في قضاء الحقوق وإقامة الحدود فلا فرق بين أمير وجندي. فكان عمر رضي الله عنه يساوي بين الناس في القضاء مهما علَتْ منزلتهم. فكان الوالي في نظره فرداً من الأفراد، يجري حكم العدل عليه كما يجري على غيره من سائر الناس، فكان حبّ المساواة لا يعدله شيء في أخلاقه. إذا اشتكى العاملَ أصغرُ الرعيّة، جرّه إلى المحاكمة حيث يقف الشاكي والمشكو منه، يُسوَّى بينهم في الموقف حتى يظهر الحق.
 
وكان العدل القضائي لعمر لا يفرق بين المسلمين والذميين. فعن سعيد بن المُسيَّب، أنّ عمر بن الخطاب اختصم إليه مسلمٌ ويهوديٌّ، فرأى عمر أنّ الحقّ لليهوديّ، فقضى له. فقال له اليهوديُّ: والله لقد قضيْتَ بالحقِّ، فضربَه عمر بن الخطاب بالدرَّة، ثم قال: وما يُدْريك، فقال له اليهوديُّ: إنّا نجدُ أنّه ليس قاضٍ يقضي بالحقِّ إلاّ كان عن يمينه مَلَكٌ، وعن شِمالِه ملَكٌ، يُسدِّدانه ويُوفِّقانه للحقِّ ما دام مع الحقِّ، فإذا تركَ الحقَّ عَرَجا وتركاه.(موطأ مالك، كتاب الأقضية، حديث رقم (1398) )
 
ولم تؤثّر في تصرفاته عواطفه الخاصّة، فكانت الصراحة والعدل تشمل جميل أعماله. وجعل حصول الإنسان على حقّه واجباً وحاسماً. كما عني بالسرعة في توصيل الحقوق لأصحابِها، فكان ذلك أحد مآثر عمر بالإضافة إلى اهتماماته باختيار القضاة الذين امتازوا بالعلم والعدالة.
 
لقد كان له جهاز مرتبط به، لمراقبة أحوال الولاة والرعية. كانت ((عينه)) في الداخل يرعى الناس ويوزع الأرزاق، ويعسّ في الليل، ويراقب الأسواق في النهار، ويقضي بين الرعية بالعدل والقسطاط. وكانت ((عينه)) في الخارج على كل الجبهات: في العراق، وفي الشام، وفي مصر، فضبط العمال ووجه القضاة وراقب كتّاب الدواوين المسؤولين عن أموال المسلمين، ووضع ((الخراج)) تحت رقابة مستقلة عن الوالي، وعزل الولاة وأمراء الجيوش عندما قضت الحاجة، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب.
 
إنّه عمر الذي حمل الدقيق على ظهره للمرأة الفقيرة وصغارها الجائعين، وهو الذي تفقّد أحوال الناس ليلاً، وسمع أنين امرأة جاءها المخاض فأسرع مع زوجته لمساعدتِها في ولادتِها، وهو الذي فرض لكل وليد من المسلمين عطاءه منذ ولادته، وهو الذي أمر أبا سفيان بإعادة هدايا ولده معاوية إلى بيت مال المسلمين، وهو الذي عامل أهل الذمّة من نصارى ويهود كما أمر الله، وهو الذي ساوى في الحكم وإقامة الحدود بين الفقر والغني والأمير والعامّة. وهو الذي قيل فيه: ((حكمتَ فعَدَلت فأمِنْتَ فنِمتَ)).
 
كان عمر رضي الله عنه ـ فيما ذكر عنه ـ يعُسّ بنفسه، ويرتاد منازل المسلمين، ويتفقّد أحوالهم بيده.
وعن الأوزاعي، أنّ عمر خرج في سواد الليل، فرآه طلحة، رضي الله عنه، فذهب عمر فدخل بيتاً ثم دخل بيتاً آخر، فلمّا أصبح طلحة ذهب إلى ذلك البيت، وإذا بعجوز عمياء مقعدة، فقال لها: ما بال هذا الرجل يأتيكِ؟ قالت: إنّه يتعاهدني، منذ كذا وكذا، يأتيني بما يصلحني، ويخرج عنّي الأذى، فقال طلحة: ثكلتك أمّك طلحة أعثرات عمر تتّبع.
 
وكان دائماً يطمئن المسلمين من ناحية شدّته وأنّه ساهر على راحتهم وإعطاء حقوقهم. قال عمر في خلافته: لئن عشتُ إن شاء الله لأسيرنّ في الرعيّة حولاً، فإنّي أعلم أنّ للناس حوائج تقطع دوني، أمّا عُمّالهم فلا يرفعونَها إليّ، وأمّا هم فلا يصلون إليّ. أسير إلى الشام فأقيم بِها شهرين، ثم أسير إلى الجزيرة، فأقيم بِها شهرين، ثم أسير إلى مصر، فأقيم بِها شهرين، ثم أسير إلى البحرين، فأقيم بِها شهرين، ثم أسير إلى الكوفة، فأقيم بِها شهرين، ثم أسير إلى البصرة، فأقيم بِها شهرين، والله لنعم الحول هذا.
وكان عمر يذهب إلى العوالي كل يوم سبت، فإذا وجد العبد في عمل ثقيل، لا يطيقه، وضع عنه منه بقدر ما يظهر له.
 
فإننا نلاحظ العدل الصحيح في شخصية عمر ورحمته على السواء، وكلا العدل والرحمة من صفاته الأصيلة فيه. فقد كانت الرحمة من صفاته التي وازنت فيه العدل أحسن موازنة. بِهذه المبادئ العادلة، والنفس المنكرة لذاتِها والتواضع البالغ، استطاع أن يؤلف القلوب ويوحّد النفوس.
 
فإذا كان يمكن أن تكون شخصية واحدة قادرة على بناء قاعدة عريضة للدولة الإسلامية التي سيطرت في عهد عمر بن الخطاب على مساحات شاسعة وحكمت شعوباً مختلفة بالعدل والقسطاس، فإنّ عمر بن الخطاب هو هذه الشخصية.
وبانقضاء عهد الخليفة الراشد عمر، ينقضي عهد مؤسس الدولة الإسلامية التي وسع رقاعها، وثبت دعائمها، فكان مثال القائد الموجه، والأمير الحازم الحكيم، والراعي المسؤول، والحاكم القوي العادل والرفيق الرؤوف، فقد مات ضحية الواجب، وشهيد الصدق والصلاح، فكان مع الصدّيقين والصالحين من أولياء الله تعالى. وسيبقى اسم عمر بن الخطاب مخلداً ولامعاً في تاريخ الحضارة والفقه.
 
د. سهى بعيون