عدل أبي بكر الصديق رضي الله عنه

هل في حكّام الدنيا، قديمها وحديثها مَنْ بلغ في عدله، وتساميه، وقوّة نفسه، وفيما نسميه اليوم ديمقراطية، ويسمّيه الإسلام شورى، بلغ مبلغ خليفة المسلمين الأول؟

 

لقد سنّ أبو بكر رضي الله عنه للخلفاء وحكّام العالم سنّة الديمقراطية، والمساواة، والثبات على الحقّ. وسار أبو بكر في خلافته خير سيرة، جاعلاً الأسس التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم للمجتمع الإسلامي نبراساً يهتدي به، ويسير على ضوئه. كان بلا نزاع قدوة حسنة للمسلمين، وكان عادلاً عطوفاً على غير المسلمين ما سالموا، وكانت أعماله لتحقيق العدالة الاجتماعية قويّة ناجحة، وكان لا يقطع بأمر من غير شورى، إلاّ أن يكون القرآن الكريم أو الحديث الصحيح صريحي الدلالة على هذا الأمر، وحينئذ فاتباعٌ للدستور الإسلامي الخالد، وكان الناس عنده سواسية لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي إلاّ بالتقوى، وكانت روح الإسلام توجّه تفكيره وتقرر اتجاهاته.

 

وكان أول عدله رضي الله عنه نفي الأهواء والشهوات عن ذاته وإنصاف الناس من نفسه، حتى أنّه كان يتحرّج أنْ يخص نفسه بشيء من أموال المسلمين، وقد أثر في بدء خلافته أن يكسب قوته وقوت عياله من تجارته، وليس من بيت مال المسلمين، ثم قبل بناء على طلب المسلمين بالتّخلي عن تجارته والانصراف لأعباء الخلافة وحدها لقاء راتب بسيط جداً تَمّ فرضه عن طريق الشورى العامة.

 

ولقد بلغ أبو بكر من هذا التنَزّه حدّاً يحسبه أهل جيلنا ممعناً في المبالغة. لم تغيّر الخلافة ولا غيّرت الإمارة من حياته، ولم تنتقل به من دار إلى دار غيرها. وقد نسي منذ تولّى أمور المسلمين نفسه ونسي أهله وأبناءه ،وتجرّد لله تجرّداً مطلقاً، وأوجب على نفسه أن يشعر بضعف الضعيف وحاجة المحتاج، تحقيقاً لمعنى الإخاء في أسمى صوره، وإيذاناً بأنه ليس له في الحياة هو، وأنّه يقدِر لذلك على أن يقيم بين الناس عدلاً منَزّهاً لا يعرف محاباة، وإنّما يعرف حدود الله في أن يعيش الناس جميعاً في ظلّ عدله، جلّ شأنه، آمنين مطمئنين.

 

كذلك كان من الطبيعي أن ينصف الناس من بعضهم ومن الحكم طالَما أنّه كان لا يتورّع مِنْ أنْ ينصفهم من نفسه، وأنّ خير وصف لسياسته العادلة ما ذهب إليه الدكتور طه حسين حين قال: ((وكذلك بلغ حرص النبي وأبي بكر على العدل أن يتأثّما مِمّا لا إثْمَ فيه، وأنْ يتحرّجا مِمّا لا تتحرّج منه ضمائر الأتقياء، ولو طالتْ خلافة أبي بكر لرأينا منه في ذلك الأعاجيب)).

 

د. سهى بعيون